الرئيسيةالرايثقافة

رأي- تزييف التاريخ الليبي.. من القذافي إلى ابن زايد

*كتب/ عبدالوهاب الحداد،

عندما مول وأنتج القذافي فيلم “أسد الصحراء” عن عمر المختار، لم يكن حبا في شخصه وبطولته وجهاده، وإنما كان الغرض هو ضرب وتشويه الملك إدريس والعائلة السنوسية، وقد ظهر ذلك بشكل مباشر في أكثر من مشهد في الفيلم.

 

فمشهد الاحتفال بوصول قرسياني لبنغازي أظهر مجموعة من الليبيين في استقباله يرتدون “الزي السنوسي” ومنهم المجاهد “الشارف الغرياني”، ثم في مشهد آخر يُعرَض على “المختار” الاستسلام وأن “محمد الرضا السنوسي” هو من سيرتب له الخروج الآمن من ليبيا، فيرد “المختار”: لأختبئ مع أخيه!! والمقصود هنا “الملك إدريس”. ناهيك عن إظهار الشخصيات السنوسية في المسلسل ترتدي ملابس فاخرة ونظيفة وصدورهم مرصعة بالقلائد والسلاسل المذهبة.

وهذا ما يمكن أن نطلق عليه “تزييف” وليس “تزوير”.. التاريخ كما يقول الكاتب “أسامة عكنان” في مقاله “بحثتُ عن الشعب الليبي في فيلم عمر المختار فلم أجده”، حين يقول (…التزييف يختلف عن التزوير، فالتزييف يستهدفُ الوعي، بينما التزوير يستهدفُ الواقع. فإذا كان التزوير صناعة تلعبُ بالمعطيات في مُكَوِّنها المادي “الواقع”، فيكون تأثيرها محدودا زمانيا وذهنيا، فإن التزييف ثقافةٌ تتلاعب بتلك المعطيات في مُكَوِّنها المعنوي “الوعي”، فتجعل هذا الأخير طوعَ بنان إرادة المُزَيِّف…).

أي أنه يستهدف “الوعي” لا “الوقائع”، وبمعنى أبسط، نقل جزء محدد لوقائع من التاريخ، مع دس رسائل مزيفة تستهدف البعد المعنوي لشخصيات أو مكونات أو ثقافات محددة بدقة وعناية، لتحقيق هدف قريب بعيد.

فما حدث في فيلم “أسد الصحراء” أنهم أخذوا المجاهد عمر المختار -أحد إخوان السنوسية- وضربوا به السنوسية، وأسقطوا الفترة الزمنية التي كان فيها المختار أحد المجاهدين تحت إمرة “أحمد الشريف السنوسي” ضد الإنجليز والفرنسيين، متجاهلين كل الوثائق الموثوقة التي كانت تصف المختار بـ”قائد المقاومة السنوسية”، وأدعوكم هنا لقراءة كتاب “عمر المختار الحقيقة المغيبة” لكاتبه يوسف الحبوش، والذي كان وراء تأليفه هو التزييف الذي كان في فيلم أسد الصحراء.

اليوم يسير الممول “الإماراتي” المؤدلج على ذات الوصفة، وها قد اختار شخصيات ليبية نتفق جميعا على دورها التاريخي مثل “غومة المحمودي وعبد الجليل سيف النصر والملك إدريس” لإنتاج دراما عنهم، وسيسعد كثير من الليبيين بمشاهدة عمل درامي يخلد ذكرى هؤلاء الرموز، لكن ما يحدث -بناء على معلومة وليس توقع- أنهم يمارسون في تناولهم ذات لعبة التزييف التي انتهجها القذافي في تمويله لفيلم أسد الصحراء.

سيسربون أن الملك إدريس السنوسي إنما كان عميلا للإنجليز، وبأنهم من أسس له جيشا، وحارب تحت القيادة الانجليزية في الحرب العالمية الثانية، ثم يسكتون، ولن يتحدثوا عن ظروف كل ذلك، وما قبلها وبعدها.

سيسربون أن عبد الجليل سيف النصر كان متحالفا مع الإنجليز ويهرب معهم الذهب من أفريقيا عبر فزان.

سيسربون أن غومة المحمودي تحالف مع الفرنسيين وداهنهم نكاية في العثمانيين.

لا أحد يستطيع أن ينكر رمزية أبطال مثل غومة وعبد الجليل والمختار، وهو أمر لا يقبل النقاش ولا التشكيك، وستكون صورة العمل الدرامي محترفة، فهم لا يستطيعون “تحريف” الوقائع، ولن يفعلوا؛ لأنها عملية مكشوفة لن تنطلي على قارئ لكتاب التاريخ المدرسي، لكنهم يعملون على تزييف الوعي المجتمعي، عندما يسربون في بعض المشاهد واللقطات أن رموزنا التاريخية كانت “عميلة” للإنجليز والفرنسيين، أو على الأقل بأنهم أغبياء وسذج يتلاعب بهم الأجانب طول الوقت، وأنهم طلاب سلطة ومجد شخصي وزعامة فقط، ولا يحاربون لرفع الظلم، سيصنعون صورة نمطية للمجاهدين الليبيين بأنهم قطاع طرق قبليين عنصريين يتقاتلون فيما بينهم ويشون ببعضهم البعض.

طبعا كل ذلك لن يكون مباشرا، بل سيسرب بذكاء خبيث لا يشعر به المتلقي العادي، والمشاهد البسيط، وسنتجرع السم وسط العسل، خاصة مع غياب تام لأي دراما ليبية تنصف وتحصن رموزنا التاريخية، بل وقنوات لازالت تعيد بث فيلم عمر المختار في يوم الشهيد!

سيأتون ببعض الوقائع التاريخية الحقيقية التي وقعت بالفعل قبل أكثر من قرن، وسببت الفتن والضغائن والحروب بين قبائل ومناطق ليبية، لكنها كانت عابرة لها ظروفها وملابساتها، لها ما لها وعليها ما عليها، فيسلطون عليها كاميراتهم ويبرزونها ويجعلونها محورا لأعمال درامية يصرف عليها دولار ودرهم إماراتي.

ولأن حكام الإمارات اليوم في عداء مع الدولة التركية التي شاركت في إجهاض حلمهم في تنصيب عميلهم على ليبيا، فسيقلبون التاريخ الليبي- العثماني الممتد لأكثر من ثلاثة قرون، ويأتون بأكثر السنوات سوءا، ينفضون عنها الغبار، ويجعلونها عملا دراميا، وفي المقابل لن ينتجوا مشهدا ولا لقطة واحدة تتحدث عن تحرير العثمانيين لليبيا من فرسان القديس يوحنا، أو أي حوار يتحدث عن أي منجز ولو من باب الإنصاف والموضوعية.

ولأن لتركيا إنتاجها الدرامي التاريخي الذي تستطيع به تحصين شعبها، وخوض حروب درامية باردة وناعمة، فإن ما يهمنا كليبيين بالدرجة الأولى هو الزج بتاريخنا ورموزنا في هذه الحروب، ومحاولة اللعب بإرثنا ومشتركاتنا وهويتنا الجامعة التي نلملم ما تمزق من نسيجها، وهي مهمة ترتبط بأمننا القومي، وليست مجرد أعمال ترفيهية نتسلى بمشاهدتها في شهر رمضان.

أخيرا.. هل يعتقد ليبي واحد بالغ عاقل راشد أن أبناء زايد يحبون ليبيا لدرجة تمويل وإنتاج دراما -منصفة- لتاريخنا الليبي تتحدث على الأقل عن أمنيات سابقة لهم بأن تكون أبوظبي كطرابلس!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى