الراي

رأي- غسان سلامة في ليبيا: فشل ذريع أم سقوط مبرَّر؟

 

*كتب/ عبدالعزيز الغناي،

 

يبدو أن غسان سلامة خرج من سجلات النسيان وعاد للمشهد مجدداً على الساحة الليبية ليتم تداول أحاديثه وتصريحاته الأخيرة، وذلك بعد فترة من الغياب بعد استقالته من منصب المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في ليبيا.

وتحدث سلامة، في مقابلة مع مركز الحوار الإنساني، عن أن دولاً فاعلة في الملف الليبي -اتهمها سلامة بالنفاق- قامت بدعم هجوم حفتر على طرابلس والتآمر ضد مؤتمر غدامس الجامع، ذلك المؤتمر الذي كان على مرمى حجر ليتوقع منه تحقيق استقرار لليبيا التي تعاني انقساماً سياسياً ومؤسساتياً منذ 2014م.

 

سلامة كعادته استخدم عبارات فلسفية في الحوار، إذ قال أيضاً إنه طُعن في الظهر من جانب غالبية أعضاء مجلس الأمن، وإن قادة بعض الدول المهمة لم يعد لديهم ضمير. غسان سلامة خرج من باب أنه لا يُلقى عليه باللائمة فيما جرى ويجري على أرض ليبيا، رغم أنه -في تقديري- جزء لا يتجزأ من المنظومة المتسببة فيما آلت إليه الأوضاع في ليبيا.

تم تعيين سلامة مبعوثاً أممياً خلفاً للألماني مارتين كوبلر، ومن قبله الإسباني برناردينو ليون عرابَي الاتفاق السياسي الليبي الموقّع في الصخيرات في ديسمبر 2015، اللبناني كان وزيراً للثقافة في حكومة الحريري (الأب) فترة ما بين عامَي 2000 و2003، كما أنه عضو هيئة تدريس في معهد الدراسات السياسية بباريس، مع خبرة لا يستهان بها في مجال الدبلوماسية الأممية في العراق وتونس.

**مبعوث أممي أم مبعوث فرنسي؟

غسان سلامة، الذي يكرر باستمرار أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كان تلميذه، قد أخذ موقفه منحى فرنسا لودريان وماكرون ورؤيتهما للوضع الليبي، ومنذ بداية توليه رئاسة البعثة أهمل سياسيي الشرق، وأصبح يتعامل مع حفتر ويزوره في موقعه في الرجمة، رغم أنه بالرجوع لأبسط البروتوكولات الدبلوماسية، كان من المستحسن أن يتعامل المبعوث الأممي مع مسؤول مدني سياسي كعقيلة صالح، رئيس مجلس نواب طبرق، خاصة أن الأخير هو القائد الأعلى لحفتر وقوات شرق ليبيا.

تلك المساعي جعلت حفتر رقماً في المعادلة الليبية، جاءت وفق هوى باريس، أو ربما على الأرجح بتخطيط منها، في ذلك الوقت كان برلمان طبرق يمتلك عدداً لا بأس به من النواب، وكان من المفترض أن يكون القائد الأعلى لحفتر، لكن سلامة كان باستمرار يركز على زيارة حفتر وإهمال السياسيين والدبلوماسيين في شرق ليبيا، رغم أن حفتر في تلك الفترة بالكاد أعلن السيطرة على بنغازي ومواني تصدير النفط ولازال جنوب ليبيا وغربها وحتى مدينة درنة شرقي ليبيا خارج سيطرته.

 

زيارات سلامة لحفتر وفرضه على خارطة التسوية كطرف قوي لم تكن وحدها دليلاً لميول غسان سلامة للتصور الفرنسي بفرض حفتر على هرم السلطة في ليبيا، فطيلة فترة توليه المنصب صب جام تركيزه على الوضع المعيشي وصعوبته في طرابلس ومساوئ حكومة الوفاق والمدن الداعمة لها، وغض الطرف عن انتهاكات عدة حصلت في مناطق خاضعة لسيطرة حفتر، ومن منا لا يتذكر تصريح سلامة قبيل مؤتمر باليرمو (نوفمبر 2018) لصحيفة الأهرام المصرية بأن ليبيا تتعرض لمرحلة نهب غير مسبوقة في تاريخها، وأنه في كل صباح يولد مليونير جديد، وأن ليبيا تنتحر بأموالها، فيما بدا كمبررات تُساق لإسقاط حكومة الوفاق، أو البحث عن منقذ ينقذ الدولة والمجتمع من الانهيار.

 

سلامة أيضاً سعى في ملتقيات باريس الأول والثاني وباليرمو إلى أن يجعل من حفتر –رغم أنه لا يمتلك أي صفة سياسية– طرفاً في الصراع السياسي الليبي، إلى أن توَّج جهوده بما عُرف باتفاق أبوظبي، وهو اتفاق جرى بعد وساطة أمريكية في العاصمة الإماراتية أبوظبي تقضي بخطة لتقاسم السلطة المدنية والعسكرية بين حفتر والسراج.

هذا الاتفاق كان يتطلب إجماعاً دولياً ومحلياً، وبمجهودات الولايات المتحدة والإمارات وفرنسا كان من المتوقع مروره دولياً، أما محلياً فقام سلامة برحلات مكوكية بين المدن الليبية لتمرير الاتفاق، كما عقد اجتماعات مع قوى سياسية في الغرب الليبي، وكان لا يتوانى عن استخدام ورقة التهديد بالحرب من حين لآخر إذا ساءت الأمور، بمعنى أن حفتر تغوَّل كثيراً وأنه قد يكون خارج السيطرة.

**انهيار الاتفاق وحرب على أسوار طرابلس

اتفاق في اليد وقوى عسكرية تتحرك من الشرق ومؤتمر جامع يجمع سياسيين ومشائخ ونشطاء وعسكريين سيمثل الإعلان الدستوري لاتفاق أبوظبي، فسيفساء معقدة لكن قطف الثمار اقترب، وحدد له يوم الرابع عشر من أبريل 2019 م، بل ذهب البعض للحديث عن دعوات وزعها سلامة على حضور مقترح للمؤتمر الجامع، لكن أتت المستجدات بما لا يتوقع سلامة، فيبدو أن حفتر لا تستهويه فكرة أن تسلم له السلطة طواعيةً أو يتقاسمها مع أحد، فقبل 10 أيام من المؤتمر الجامع أعلن حفتر ما سماه عملية الفتح المبين لتحرير طرابلس ناسفاً كل الجهود الدبلوماسية وتاركاً الحسم للقذائف والمدافع وفوهات البنادق، عملية توقع مستشارو حفتر أن تنتهي خلال 48 ساعة تحولت إلى 48 يوماً ثم 48 أسبوعاً إلى أن انهارت بعد 14 شهراً.

استعرت الحرب التي هدد بها سلامة وحصدت الأرواح البريئة من المدنيين، وفشلت كل مساعي المبعوث الأممي في هدنة إنسانية في رمضان أو في عيد الفطر، أو الوصول لأي تهدئة، كما أن سلامة -بعد شهر تقريباً من بدء العمليات العسكرية جنوبي طرابلس- قال متهكماً في مقابلة مع إذاعة فرانس إنتر إن حفتر ليس إبراهام لينكولن وليس بذلك الديمقراطي الكبير، تصريح لاقى سخطاً عريضاً في الأوساط الليبية؛ إذ إنه وطالما أن سلامة يدرك أن حفتر لا يمتلك هذه المواصفات، فلماذا يصر على فرضه كخيار وحيد؟ ولماذا لا يستحق الليبيون لينكولن بعد أربعينية حكم القذافي وثمانية بعدها مضت في حروب أهلية طاحنة؟

من الواضح أن المبعوث الأممي قد مال لاختيار الطريق الأقصر وإن كان دموياً، لأنه ختم كلامه بأنه –ويعني حفتر– يمتلك القوة ومؤهلات توحيد البلاد، ربما رأى الأممي أن طريق بناء الدولة الليبية على أسس ديمقراطية متينة طريق طويل وشاق، وأن تكوين نظام شمولي وإن كان على أنهار من الدماء قد يكون نجاحاً وإرضاء لرؤية ماكرون وتتويجاً لمسيرة سلامة في عالم لا يعترف إلا بالقوي.

سلامة طيلة الحرب أظهر عجزاً واضحاً واقتصرت تقاريره الدورية على توضيح الأحداث الحاصلة –وإن كانت أحياناً تتضمن عبارات حادة تدين حفتر وقواته– كأي إجراءات روتينية تتخذ من قِبل أي موظف، إحاطات باهتة وفشل مساعي هدنة إنسانية ثم هدنة في موسكو، ثم هرب من كل محيطه إلى أن علق كل آماله على مؤتمر برلين رغم ضبابية الرؤية، أخيراً استقال من وظيفته في مارس 2020، وما لبث أن قبل الأمين العام استقالته إلى أن تغيرت معالم المعركة وسيطرت حكومة الوفاق على مدن الساحل الغربي وقاعدة الوطية إلى تحرير كامل طرابلس وكافة إقليم طرابلس باستثناء بعض المدن في شرق الإقليم.

 

**سلامة بين الفشل والتواطؤ

قد يتم الربط بين ترك سلامة لمنصبه وبين انهيار قوات حفتر والدول الداعمة له، وقد لا تكون هناك فعلياً أي علاقة، لأن سلامة نفى عدم حياده عدة مرات، لكن علاقة الإمارات بالمبعوث الأسبق برناردينو ليون وتعيينه مديراً للأكاديمية الدبلوماسية بالإمارات بعد انتهاء فترة ولايته للبعثة في ليبيا براتب 50 ألف دولار للسنة فتح باباً واسعاً حول حيادية المبعوثين الأمميين في كل أرجاء العالم وفي ليبيا خاصةً، وحيث إنه وبطبيعة الحال فإن سلامة أحدهم وله علاقاته العريضة في باريس منذ أن كان محللاً سياسياً لراديو مونتي كارلو الفرنسي، ولباريس رؤيتها ومآربها الخاصة.

تصريحات سلامة الأخيرة تحمل ذات التناقضات المعهودة عليه، فالحرب على أسوار طرابلس كانت ورقته للتهديد، والتوغل الإماراتي والفرنسي منذ سنوات في الشأن الليبي واضح للعيان، وهو يعقد المسائل ولا يحلحلها، كما أن الدول التي ساندت مساعيه في البداية كفرنسا والإمارات تنكرت له ولم تمد له يد العون دبلوماسياً ولوجيستياً، رغم أن سلامة من ضمن إعداده لمؤتمر برلين أوصى وبعثته بدعوة الإمارات للاجتماع، رغم أن الأخيرة ليست دولة جوار لليبيا وليست دولة متوسطية وليست ضمن الدول الكبرى في مجلس الأمن، كما أنها تدعي الحيادية والاعتراف بحكومة الوفاق الوطني رغم دعمها اللامحدود لحفتر وتورطها بشكل شبه مباشر في دعم أمير الحرب في ليبيا.

بين الحين والآخر يغرِّد سلامة على تويتر وكأنه يعيش في عالم من تأنيب الضمير وشعور بالفشل والخذلان، ولعل تغريداته التي تحمل دائماً معاني فلسفية عميقة أو أبيات شعر لها عمقها ومدلوليتها، إنما تعكس الحالة التي يعيشها غسان سلامة، ففشل المبعوث الأممي وانسحابه من مهمته في حال عدم الاستقرار أهون من تركه في حالة حرب مستعرة بالوكالة، ولكن السؤال الذي يبقى: هل سلامة هو من أوصل ليبيا لهذه الحال أم أنه حاول بشتى الطرق منع تدهور الأمور ووصولها لهذا الحال؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشرت المقالة على موقع عربي بوست الثلاثاء (07 يوليو 2020م).

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى