الرئيسيةثقافة

الألم. كان هو الناجي الوحيد في درنة

خارت جميع القوى. وفشلت كل المحاولات في جعل الموضوع يبدو هيناً وطبيعيا وممكن تجاوزه!

* كتبت/ حواء بللو،

نعيش في درنة.. لا برفاهية العيش فيها

ولا لإمكانياتها الكبيرة

ولا على أطلال مدينة الثقافة كما يتغنون بها..

نعيش في درنة متشبثين بأحبتنا

متكئين عليهم ومتكئين علينا

تلك الألفة التي تربطنا ببعضنا

بأننا جميعاً نعرف بعضنا جيداً

كل وجه في درنة يعرفني وأعرفه

حتى قيل إن الدرناوي يستطيع من أول وهلة أن يكتشف أنك من خارج المدينة عندما يراك!

عبرنا معاً أياما شديدة الصعوبة

أتقنّا فيها فن تفادي الحروب والمعارك

تعلمنا كيف نعرف أي من جدران البيت يمكنه أن يحمينا أكثر من وابل الرصاص العشوائي..

تعلمنا

كيف نصوم ونفطر على الشحيح

تعلمنا

كيف نعيش أيامنا بدون كهرباء، بدون ماء صالح وغير صالح

وبدون أمان..

عرفنا جميع أنواع الأسلحة

حتى بتنا نحفظ أسماءها غيباً، ونفرق بين كل صوت سلاح على حده..

تعلمنا كيف نصنع السواتر الترابية، كيف نخترق الحصار، وكيف نتشارك ما نتحصل عليه من قليل من خبز وماء

وتشاركنا كل شيء..

ما نستطيع معرفته من أخبار،

وما نستطيع توفيره من أبسط احتياجات الحياة اليومية..

تشاركنا أياماً كان من المفترض أن نقضيها في سلام، استهلكتنا في حروب وأزمات وحصارات مطبقة ومحاولات نجاة ولم نعترض..

عشنا هذا كله لأننا عبرناه معاً..

ولكن ما حدث لم نعتده

لم نعرف كيف نتقنه أو نتفاداه..

بت أخجل حتى أن أقول أنني لازلت علي قيد الحياة

أخجل من الجواب عن سؤال كل من يحاول أن يطمئن عليّ..

كيف أقول إنني لم أرحل معهم

كيف أقول إنني بقيت دونهم وكأن لي حق الحياة علي خلافهم!

لكن الحقيقة أنه في درنة حقاً لم ينج أحد..

حتى من بقي على قيد الحياة!

الفيضان.. لم يوقع مبان

لم يقض على أحياء وشوارع المدينة..

الفيضان.. أدمى قلوبنا

أخذ من أرواحنا

لا أعرف كيف أشرح ذلك، ولكنني أعرف أننا لن نتعافى

لن نستطيع تجاوز الأمر..

خارت جميع القوى. وفشلت كل المحاولات في جعل الموضوع يبدو هيناً وطبيعيا وممكن تجاوزه!

لن أتكلم عن أماكن أو شوارع

لن أتكلم عن المدينة القديمة ولا أي معالم للمدينة

نحن فقدنا ما هو أثمن

فقدنا الإنسان

فقدنا الحياة كقيمة

اختفي كل ذلك في غمضة عين..

بت أخجل حتى أن أقول أنني لازلت علي قيد الحياة

أخجل من الجواب عن سؤال كل من يحاول أن يطمئن عليّ..

كيف أقول إنني لم أرحل معهم

كيف أقول إنني بقيت دونهم وكأن لي حق الحياة علي خلافهم!

لكن الحقيقة أنه في درنة حقاً لم ينج أحد..

حتى من بقي على قيد الحياة!

وحده الألم الحاضر اليوم

كان هو الناجي الوحيد من ذلك اليوم

ينتظرنا، يتربص بنا، ليترك أثره علينا وعلي أيام حياتنا المقبلة..

حاملاً كل الوجوه التي فقدناها،

كل تلك الوجوه والذكريات في عينيه وبين ملامحه، متوحداً بها،

يكاد يشبهها أو تشبهه..

سنعرف من الآن.. كيف لجزئية من الوقت أن تدوم للأبد..

أن تبقي بيننا وبين الحياة

بهذا التيه، وإحساسنا بالضياع، وآثار الصدمة

والترقب لمعجزة ما حتى وإن كانت غير قابلة للنسيان علها تنقذنا!

سيخلد ذلك اليوم كوشم على كبدنا

كجرح غائر في قلبنا

كيف لضمادة أن تصل لهكذا جرح!

ومن قال إننا نريد ضمادة!

ونحن الذين لن نقبل أن يلوح أحد لنا بالنسيان خيارا أو بالتجاوز كمواساة..

أي معاهدة للنسيان نحن من سينقضها أولاً!

أي فكرة للتحايل نحن من سيقف دونها!

كما أن الوقت قادر على النسيان، قادر أيضاً على تشييد برج عالياً للذكري

يعلو شيئاً فشيئاً كلما مر الوقت..

حزننا في درنة حزن بالغ الخصوصية

لا يمكننا البوح به هكذا

ولكنك دائماً ستجده في أعيننا

بيننا وبين الحياة ..

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى