* كتب/ هشام الشلوي،
النماذج التفسيرية للتاريخ لا تقل أهمية عن روايات التاريخ نفسها، فتكديس الروايات التاريخية ضرورة من ناحية التوثيق والحفظ، شرط أن تأتي مرحلة تالية تفسر الصحيح من هذه الرواياتـ بجمعها وضمها وقراءتها بذهنية وعقلية مختلفة عن عقلية التوثيق والحفظ.
فالروايات التاريخية مجتمعة تحمل في بواطنها دلالات حتى وإن لم تكن قطعية لكنها معينة على فهم حركة المجتمعات في التاريخ، صعودا وهبوطا.
مثلا يلفت الجغرافي المصري جمال حمدان في كتابه، أنماط من البيئات، إلى فكرة تفسيرية مهمة للتاريخ من زاوية الجغرافيا والبيئة، إذ يقول: “ولقد رفض البدو دائما الاستقرار والزراعة، لأنها دار ذل، من هنا احتقارهم العميق للفلاحين. بل يحاول البعض، سواء خطا أو صوابا، أن يفسر تيه بني إسرائيل في صحراء سيناء 40 سنة بعد خروجهم من بيئة الزراعة النيلية، بأن في ذلك عملية قاسية من الانتخاب الطبيعي والتصفية من شأنها استبعاد جيل ضربت عليه الذلة والمسكنة الزراعية، ونشأة جيل جديد صحراوي حر”.. انتهى ص 105
وهذا ما قد يفسر لنا –ولو جزئيا– لماذا لا تثور الشعوب الزراعية كثيرا على أوضاعها السياسية والاقتصادية، أو تثور –إن فعلت– على فترات تاريخية متباعدة، أو حتى إن ثارت، فسريعا ما تعود أدراجها، ولا تعاود الكرة. لأن الاستقرار، حتى وإن كان وهميا، كما حدثني صحفي مصري نبيه، يعلم الذل.
في قراءتي المتواضعة لتاريخ ليبيا الحديث، بعد الحرب العالمية الثانية، بان علي نموذجين تفسيريين لمجمل هذه الروايات.
الأول: جبرية الضعف، لأن ليبيا دولة شاسعة المساحة، وسكانها قليل، وبالتالي ليس لدى الدولة إمكانية حماية هذا الفراغ الواسع، وأن ما يحميه من الانهيار الكلي والذوبان في دول أخرى أشرس منها وأكثر سكانا، هو النظام الدولي والإقليمي.
الثاني: قدرية التدخل، بمعنى أن التدخل الخارجي الأجنبي سواء أكان ذلك دوليا أو إقليميا، لا مناص منه ولا مفر، وليست شعارات السيادة الوطنية المتعالية بمغنية عن ذلك أو ذات جدوى لمعالجة هذه المسألة.
نلاحظ جميعا أن المواقف السياسية المحلية هي صورة مصغرة من المواقف الدولية والإقليمية، وأن تصريحات السياسيين هي نتيجة هذه القدرية، فلا يستطيعن سياسي أن يتخذ موقفا مغايرا في جزئياته وكلياته لموقف الطرف الدولي أو الإقليمي الذي يتبعه.
ما أود التنبيه عليه أن ذلك ليس عيبا، ولسنا الدولة الوحيدة التي قدرها أن تكون ضعيفة أو مرهونة بالنظامين الدولي والإقليمي، ولسنا بدعا في ذلك من كثير من الدول.
لكن ما يعيب هذا النظام الخاص، هو أن استقرار الدولة الواقع تحت رحمته، أو إن شئت قل تحت طغيانه، مربوط بسلسلة من التوافقات المعقدة.
بعد الحرب العالمية الثانية وإلى سقوط نظام القذافي، كان اللاعبون المؤثرون في ليبيا قلة ومعروفون، ولا يتجاوز عددهم عدد الخمسة الكبار في مجلس الأمن الدولي.
بعد عام 2011 كَثُر عدد الدول التي لها تأثير واضح وجلي، بوصفها الأكثر تأثيرا في السياسيين والمليشيات المسلحة، فأغلب اجتماعات الساسة وقادة المليشيات في هذه الدول، وأغلب التوافقات تجري على أراضي تلك الدول.
هذا باختصار شديد، أرجو ألا يكون مخلا.