الرئيسيةثقافة

مصراتة زمان.. مكتبة الشعب

بلغ الحماس الوطني ذروته بعد إعلان الاستقلال وأصبحت ليبيا أول الدول المغاربية المستقلة لها مقعد في هيئة الأمم المتحدة وعضوا في الجامعة العربية، كان الحماس منقطع النظير لبناء ليبيا المستقلة ذات السيادة.

في ظل هذه الأجواء في منتصف الخمسينيات افتتح الشاب المتحمس الفخور بوطنيته (محمد البِرّْي) مشروعه الثقافي التجاري، وهو عبارة عن أول مكتبة حديثة تحت اسم مبهر (مكتبة الشعب)..

* كتب/ يوسف الغزال،

آآآهٍ، كم كانت كلمة (الشعب) في تلك الأيام مقدسة تقشعر لها الأبدان، مكتبة للشعب…. توفر للشعب الكتب الحديثة وتتولى تعليم الناس قراءة الجرائد وتوفر الصحف والمجلات، نعم صارت لنا دولة، وعلم ونشيد ومؤسسات حكومية ومراكز ثقافية ونواد أهلية.

الحماس يقود الناس، واستمرت مكتبة الشعب منارة ثقافية تضيء العقول، حتى تم الزحف على التجارة، وتم تجريم التجار وتفكيك القطاع الخاص وتدمير روح المبادرة الشخصية للفرد والجماعة، وعمّ الكساد كل أرجاء البلاد.

ماذا لو استمر ذلك الحماس إلى اليوم؟.. في سنوات قليلة حققت مكتبة الشعب حلم صاحبها والناس وأصبحت ناديا ثقافيا يلتقي فيه شباب المدينة. وخاصة المهتمين بهموم الثقافة وعموم القراءة والصحافة.

بدأت لنا مكتبة الشعب بوابة مصراتة الثقافية، عرفنا لأول مرة معنى كلمة مجلة وجريدة، كنا نتصفح المجلات حتى حفظنا شكل أغلفتها وطرق إخراجها وما هي اهتماماتها ومكان صدورها.

هذه مجلة المعرفة تصدر من طرابلس، وهذه مجلة العربي الكويتية المصور المصرية تأتي من القاهرة والشبكة اللبنانية من بيروت والكواكب المصرية واليقظة الكويتية، كانت مكتبة الشعب فتح ثقافي مفاجئ عن مطبوعات كنا لانعرفها.

كم كنت في صغري أستمتع بحديث الأستاذ محمد البري مع زبائن المكتبة الكبار، كان المرحوم شعلة من النشاط، لا يتوقف عن الحركة والكلام، كان يمد يده بالجريدة وهو يحاور الزبون، حول محتوى عدد اليوم من هذه الجريدة أو تلك المجلة وأهم مافيه من مقالات تستحق القراءة، كنت أجلس على كرسي في زاوية أو خلف (البنك) وعيوني تتابع البري وهو يحاور الزبائن من مثقفي مصراتة، كانوا يقولون كلاما جميلا في العلم والثقافة والفن والدين والسياسة والسينما والادب والأمثال الشعبية، كنا نسمع منهم كلاما مقنعا طريفا لانسمعه من معلم الفصل، ولم نجد ما يشبهه في المدرسة الإعدادية أو الثانوية.

كان البِرّْي يفتح المناقشة مع الزبون في موضوع تخصصه أو مجال اهتمامه، تراه يناقش الأستاذ علي فهمي خشيم في الفلسفة وكتب مصطفى محمود، وأفكار طه حسين وفلسفة عبدالرحمن بدوي، أو قضية العقل عند فرق المعتزلة، أو مع الأستاذ أحمد جهان حول عبقريات عباس العقاد، أو روايات جورج زيدان التاريخية، ثم نراه يتكلم عن الموسيقى الأندلسية ونوبة المألوف مع موسيقار المدينة الشاب المبدع عبدالله السباعي، أو عبد الهادي الفزاني، أو عن القصة القصيرة مع أحمد نصر، ثم يتكلم في الشعر مع أحد شعراء المدينة أمثال محمد حمدان أو محمد معيتيق، عند تخطي أحدهما عتبة المكتبة يرحب البري بالشعر ويذكر أبيات للمتنبي أو عنترة أو الشنفرى أو الحطيئة، تعلمت من البري عشق شعر زهير بن أبي سلمى حتى حفظت منه البيت الشهير:

(سئمت تكاليف الحياة ومن يعش.. ثمانين حولا لا أبا لك يسأم)

ويسرد الشاعر محمد معيتيق بعض من قصائد ديوانه (رياحين) أو يعيد في كل مرة أبيات للشاعر محمد الشلطامي، عندما يناقش محمد البري مسألة الفن التشكيلي مع الفنان عمر جهان او الفنان أحمد حيدر أو الرسام رمضان القنيدي، وما هي قيمة الفن واللوحات العالمية التي تباع بالملايين.

ربما يصادف دخول الباحث الأثري المميز في أناقته حافظ الولدة، تكون لبدة وصبراتة و(سبتيموس سيفيروس) موضوع الحوار.

كان محمد البري يركز الاهتمام على الأولاد الصغار وكأنه يظن بهم خيرا، كان يوزع مجلة (المعرفة) بالمجان، وكان يخفي عنا بعض المجلات مثل الشبكة اللبنانية، والكواكب المصرية واليقظة الكويتية باعتبارها مجلات تنشر على أغلفتها صور الفنانات وعارضات الأزياء وهى كانت صور صادمة في ذلك الوقت.

نذكر جيل من الأولاد الصغار في ذلك الزمان، ممن تربوا على مكتبة الشعب وتواصلوا مع القراءة، منهم الأدباء والشعراء والفنانين التشكلين والمسرحيين والأطباء والمهندسين والصحفيين والمعلمين.

كان محمد البري رحمه الله، يبالغ في شرح الفكرة وتكرارها عندما يشعر بأني وغيري من الأولاد الصغار نسترق السمع للحوار بإعجاب، كان البري يريد أن يعلمنا كل شيء دفعة واحدة وفي يوم واحد.

أما عندما يدخل المكتبة المخرج خالد خشيم أو المؤلف المسرحي إبراهيم الكميلي، أو المخرج عبدالله الطاهر الزروق أو الكاتب المسرحي المميز عبد الكريم الدناع، ويتحول البري إلى الحديث عن شكسبير، مسرح يوسف وهبي.

ثم يتحول الحوار حول الحركة الكشفية عند دخول أحد القادة أمثال الأستاذ على القويري أو محمد البيرة أو مختار الخشيف أو حسين الشيباني شعبان أو عمر معيتيق، وعندما يكون الداخل للمكتبة الصحفي عبدالله البكباك الذي كان في شبابه مراسل صحيفة (البلاغ) من مصراتة يكون الحوار على العمل الصحفي والسبق الصحفي والفرق بين المقالة الصحفية والمقالة الأدبية، المفاضلة بين الصحف التي تصدر وأهم كتابها، ويكون الحوار أكثر حماسا في الصحافة بوجود رئيس تحرير (صحيفة فزان) الأستاذ عبدالهادي الفيتوري.

تزدحم المكتبة ويبلغ الحوار القمة عندما يأتي من لا يتوقف عن الكلام حتى يُبح صوته الأستاذ الأزهري المفوه صاحب التفكير النقدي، هنا يتوقف محمد البري عن المشاركة في الحوار ويصبح مستمعا في حضرة العلامة علي التومي الشيباني (سقراط مصراتة) العظيم، الذي كلما تحدث أكثر تتسع دائرة المستمعين من حوله أكثر، وهو لا يقول القول المعتاد المألوف الذي يكرره عامة الشيوخ والفقهاء، بل كان لحديثه لون آخر وطعم آخر ونكهة أخرى، له متعة وله براعة لا تضاهى، فهو يستخدم لغة الجسد، قد يمشي عدة خطوات للخلف أو يتقدم، أو يصمت لحظة أو يصفق بيديه، مع التنويع في درجة صوته بين القرار والجواب، كان له مطرقة يطرق بها عقولنا الصغيرة طرقاً، كان حواره نصّْ ممسرح يتذوقه الصغير والكبير والأمي الجاهل، والمتعلم الواصل.

من كل هذه الأجواء تشكلت عند (محمد البري) ثقافة موسوعية أخذها من القراءة المتنوعة، أو بالمخالطة والحوارات اليومية مع زبائنه من مثقفي المدينة، يمكن القول بأنه كل يوم تعقد ندوة في المكتبة بشكل تلقائي بين محمد البري وزبائنه في شكل محاورات متنوعة تفيد كل الزبائن السامعين.

كان البري قد جعل من (صندوق بريد) مكتبة الشعب، صندوقا لكل شباب المدينة من هواة المراسلة، كان يعطي رقم الصندوق لكل شاب حتى يجعله عنوانا له، كان البري يحث الشباب على هواية المراسلة، من المعروف في منتصف الستينيات قد ازدهرت عادة ثقافية رائعة جاءت بفضل برنامج تبثه كل الإذاعات تقريبا يسمى (هواة المراسلة) كان ما عليك إلا نشر عنوانك أو صندوق بريدك حتى تنهال عليك الرسائل من كل الدول العربية، كان بعض الشباب تأتيهم ردود من الفنان فهد بلان وسميرة توفيق وإسماعيل ياسين وسعاد حسني.

كان في مكتبة البري صندوق خشب موضوع على (البنك) مليان بالرسائل وكنا نفتش (الصندوق) المحظوظ منا هو من يجد رسالة باسمه جاءت من مدينة البصرة في العراق أو من أغادير من المغرب أو مدينة وهران من الجزائر أو مدينة سوهاج من مصر.

“مكتبة الشعب” اسم له معني في خدمة الناس من أهل الثقافة، وبقت كذلك ولا تزال قائمة، فقد أعادها بعد الزحف عليها، الأستاذ علي عوين، وهي اليوم تؤدي رسالتها ليست مجرد مكتبة فقط بل أصبحت دارا لطباعة ونشر الكتب، رحم الله محمد البري الذي أبرّْ مدينته وأهلها بمكتبة الشعب.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى