الرئيسيةالراي

رأي- مقتطفات ليبية

* كتب/ أنس أبوشعالة،

إذا ما نظرنا في يومياتنا نرى ثقافة سائدة في مجتمعنا يمكننا تسميتها بثقافة الهلع والجشع في كل شي وفي كل وقت وفي كل المناسبات.

حين تهبط الطائرة وقبل توقفها ترى المسافرين الجالسين طيلة ساعات، هلعين مسرعين واقفين ينتزعون حقائبهم كما تنزع الضباع أحشاء فريستها، ويتدافعون نحو الباب في مشهد يوحي بأنهم كانوا جالسين على رمضاء تشوي مؤخراتهم أو أنهم متجهين نحو باب الريّان حيث جنة الرحمن، ولم أجد تفسيراً لهذه الحالة.

حينما تنفذ الأوامر العليا من زوجتك بجلب أرغفة من الخبز فتسير هادئاً متشوقاً لقرب حلول لحظة إصابة شهوة البطن الفطرية، وتزيد سعادتك حين اصطفاف الزملاء من جنود الزوجات انتظاراً لخروج “الكاريللو” الذي يحمل مئات بل آلاف الأرغفة الطازجة الساخنة الشهية، وفي لحظة تأمل أثناء انتظارك تفزع حتى يكاد يقف قلبك من لحظة هجوم الزملاء على حد سواء في وثبة جماعية سريعة نحو الباب الذي ما لبث أن فُتح إيذاناً بجهوزية الخبز، وترى الجموع تتلاقف أنفاسها وتتدافع بأكتافها حتى تنال حظها من الخبز في ثوانٍ معدودة، أقف مشدوهاً مرعوباً من هذا المنظر للحظات معدودة ثم أسير الهوينى منفرداً نحو مئات الأرغفة الوحيدة أختار ما أشاء دون عناء، وأدفع الحساب دون انتظار، فقد انتهت معركة الخبز في لحظات سريعة ولا أدري سبب الهلع في ذلك.

ذهبت ذات مرة لسوق لأشتري احتياجات المنزل وتنفيذ تعليمات السلطات العليا، وحين وقوفي في طابور الانتظار لدفع الحساب سرحت قليلاً وتأملت في هاتفي كثيراً حتى أتت لحظة الحساب، إلا أن هذه اللحظة استمرت بل تجمدت و توقف فيها الزمن، إذ أن شخصا محترما استأذن مني بكل أدب ليؤتى حسابه اليسير باعتباره لم يشترِ إلا علبة مناديل فأذنت له، ثم جاءت سيدة كبيرة سناً وقدراً وقالت لي يا ولدي سامحني رجليا يوجعوا فيا بالك تعطيني دورك فاستحيت مرغماً، ثم بشيخ وقور أفشى السلام واستأذن أن يُحاسب حساباً يسيراً فما هو إلا بيض وزيت وسكر وقهوة وشاي، فما كان مني إلا الموافقة على طلبه مسلماً بقضاء الله و قدره، ثم قال لي من يعمل بالمحل تعال إلى الجهة الثانية سنجعل لك محاسباً آخر حتى لا نقوم بتعطيلك، لم أصدق نفسي من فرحة انتهاء الحساب الذي كان عسيراً في انتظاره وانتهائه بفعل حالة الهلع التي أصابت الناس وعدم قدرتهم على تحمل أي التزام حتى انتظار بضع لحظات.

كنت أسير بسرعة متوسطة لا تتجاوز الستين كيلو مترا في الساعة، فإذا بسيارة مسرعة من خلفي تنبهني بكل وسائل التنبيه المسموعة والمرئية ملاصقةً لمؤخرتي حتى يصح وصف التصاقه بالتحرش و الاستباحة فهرعت لفسح المجال لعله مضطر بإسعاف مريض، و بعد ان اجتازني بمئات الأمتار انقلبت الآية وصرت أنا الذي يقرع آذانه حيث أنه كان واقفاً وسط الطريق معطلاً حركة المارين لانشغاله بالوقوف والسلام والحديث السريع مع أحد الأصدقاء الذي وجده صدفة، والعجيب أنه أشاح بوجهه قائلاً لي (وسع بالك الدنيا مش طايرة) فأنّبت نفسي الخاطئة وقلت له صدقت أنا اللي عقلي طاير.

يحسب الزمن بالسنين والأيام والساعات والدقائق والثواني، إلا أننا نمتلك معياراً زمنياً أسرع من جزء الثانية وهو الزمن بين تغير إشارة المرور الحمراء إلى الخضراء وقرع آذانك بمنبهات الواقفين خلفك، بل أن لدينا حاسة العلم بالشيء قبل وقوعه إذ تستمع لتنبيهات رقيقة ممن خلفك قبيل تغير لون الإشارة إلى اللون الأخضر ضماناً لعدم تضييع أي لحظة زمنية انتظاراً للتحرك والفرار من جحيم الانتظار.

وجدت ازدحاماً شديداً أمام أحد الأسواق ولاحظت خروج الناس بجبال من السلع والحاجات وسبب هذا الإقبال ليس الحاجة في شراء تلك الحاجة وإنما لتخفيض سعرها، فالقطعة التي كانت بعشر دنانير صارت بخمسة، ومن كان يُعزي عدم قدرته على شرائها لغلائها تراه اشترى صناديق منها بمئات الدنانير، هل ذلك من باب التوفير أم الهلع والجشع، لست أدري!

لدينا ثقافة التفاخر بالأسبقية فلا تعجب إن تفاخر أمامك أحد قائلاً جدي أول من حج بيت الله الحرام في مدينتنا آنذاك، أو قوله بأن فلان أول من اشترى سيارة في زمنه، وترى هذه الظاهرة مستمرة إذ يتسابق المتسابقون على اقتناء الإصدار الأخير للآيفون رغم ارتفاع سعره بواقع الضعف، وسبب ارتفاع سعره استغلالاً تجارياً مشروعاً لحالة الهلع والجشع وحب التفاخر بالأسبقية في امتلاك الشيء، ليس لشيء بعينه ذو قيمة ومعنى بل للاشيء، هكذا هي الأمور تقبلها كيفما هي دون أن تسأل حتى لا تتهم بالسفه والجنون.

في شهر رمضان شهر الرحمة والمغفرة والقرآن نُفجع بأموات عند كل مغرب فيما يسمى بـ (سباق الشربة) حيث لا يقود سيارته في تلك اللحظات إلا انتحاري أو سائق مدرب في جيش أجنبي، فإذا ما أذن المؤذن والسائق في جنزور فلا شك في وصوله عند قول المؤذن حي على الفلاح إلى شارع بن عاشور والتهامه للبوريك قبل انتهاء المصلين.

و حينما ينتهي من أكله فإن حمده لله ليس على نعمة الأكل في رأيي وإنما على هبة الحياة والنجاة من الموت -على الأقل- إلى حد تلك اللحظة، فكل يوم يمر عند المغرب في شهر رمضان كفيل بدنو أجله بين الأذان والقيام للصلاة.

هلع وجشع وتسابق وتدافع بكل الأشكال وفي كل الأحيان دون أي معنى ولا مغزى من هذا الجنون، ربما هي ثقافة سائدة أو عقلية راسخة أو اضطرابات نفسية أصابت كل الناس تقريباً، فأنا كذلك تجدني أسعى جاهداً لتقديم ملف القضية التي تخصني حتى أكمل عملي بسرعة وتراني حائراً بعد انتهائي عن سبب استعجالي، فالحقيقة أنه ليس لدي ما أفعل حتى أبرر سبب حرصي على تقديم نظر القضية، فقط حالة نفسية غريبة تصيبنا جميعاً فلم يعد للصبر مكاناً في نفوسنا، أو كما يقال في لهجتنا الليبية “ضايقات خلوقنا”.. ولا أظن أن للقارئ الكريم خلوق لقراءة هذا المنشور الطويل.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى