الرئيسيةالراي

رأي- في استقلالية القضاء الليبي

* كتب/ أبوالقاسم علي الربو،

لا يمكن الحديث عن الإجراءات والتدابير التي تتخذها الدول نحو الديمقراطية، بمعناها الواسع، من دون الحديث عن ضرورة وجود جهاز قضائي مستقل يكون في مأمنٍ من أيّ تدخل مباشر أو غير مباشر من السلطات الأخرى.

ولا يتأتّى ذلك إلّا بوجود نظام سياسي يساهم في تعزيز هذا الاستقلال، من خلال اتباع عدة إجراءات مهمة، تتضمن اختيار قضاة مشهود لهم بالنزاهة والقدرة والخبرة، ومن تم الاهتمام بتدريبهم والرفع من مستواهم، كما تتضمّن ضرورة تمتّع السلطات القضائية بالصلاحيات نفسها الممنوحة لكلّ من السلطات التشريعية والتنفيذية، بما فيها المزايا المالية التي تجعل القاضي غير خاضع للابتزاز المالي أو الرشوة أو استغلال الحاجة للتأثير على عدالة قراراته.

وقد شهد النظام القضائي في ليبيا تقلّباتٍ عديدة، حاله كحال باقي القطاعات العامة الأخرى، فتغير تبعاً لتغير نظام الحكم من المملكة إلى الجمهورية إلى الجماهيرية وصولاً إلى وضعه الحالي المصاحب لنجاح انتفاضة فبراير 2011، ولم يتمتّع بالاستقرار المأمول بعد. وكانت التقلبات نتيجة حتمية لعدم ثبات القوانين وتغيرها المستمر، بالإضافة إلى عدم وجود دستور، طوال حكم معمّر القذافي، يرسم العلاقات بين كل مؤسّسات الدولة وينظّمها بما فيها الجهاز القضائي، الأمر الذي جعله ينال نصيبه من الفوضى والتخبط وعدم الاستقرار.

وقد ساهم دستور سنة 1951، وقد نصّ على استقلال القضاء واتحاد النظام القضائي، في وضع اللبنة الأساسية التي اعتمد عليها القانون رقم 10 لسنة 1958، الصادر بموجب مرسوم ملكي، والذي يعتبر بمثابة الأساس الذي نظم الجهاز القضائي في ليبيا، إذ أعطى مجالاً ملحوظاً للمحاكم والقضاة، وشكّل بداية الاستغناء عن المحاكم العرفية والقبلية التي كانت سائدة قبل الاستقلال. ومن الجدير بالذكر أنّه، ونتيجة للحروب التي عانت منها ليبيا، وفترة الاستعمار التي لم تهتم بتعليم الليبيين، بل منعتهم من ذلك إلا بشروطها وبفرض لغتها، وجدت السلطات الرسمية، في اثناء المملكة ومع بداية الاستقلال، نفسها مضطرّة للاستعانة بقضاة عرب وأجانب، وكان اغلبهم من مصر وإيطاليا وبريطانيا، حين تكونت أول هيئة قضائية للمحكمة العليا الليبية في العام 1954 من ثمانية مستشارين برئاسة مصري، ولم يكن من ضمنهم أي ليبي، وبعد سنوات قليلة، أصبح جميع القضاة من الجنسية الليبية.

ومع استيلاء القذافي على الحكم في 1969، ثم استحداث محكمة الشعب، المحكمة العسكرية التي أنشئت لمحاكمة كلّ المسؤولين الذين تولوا مناصب كبيرة في عهد المملكة، كما شملت المحاكمات صحافيين وكتّاباً كثيرين وجهت لهم تهم “تضليل الشعب”، و”المساهمة في فساد العهد الملكي”، حسب ما جاء على لسان المدعي العام آنذاك، عمر المحيشي، أحد قادة الانقلاب في تلك الفترة، والذي فشل فيما بعد في الانقلاب على القذافي، وهرب إلى المغرب التي سلمته بعد صفقة مع النظام الليبي ليتم قتله. وكان للأحكام التي أصدرتها تلك المحكمة فعلها، في البداية، في تسييس القضاء وزج استقلاليته لتحقيق أهداف سياسية، أدّت، فيما أدّت إليه، إلى مصادرة الرأي الآخر، وتصفية الصحافة، حيث ألغيت الصحف الخاصة والعامة التي كانت تصدر في عهد المملكة وبأحكام قضائية، وضُيق الخناق على الصحافيين والكتّاب، ولم تبق سوى أجسام وهيئات كانت تدور في فلك مجلس قيادة الثورة الذي كان يتزعمه القذافي، وينوب عنه عبد السلام جلود في تلك الفترة.

استمر القذافي في الاعتماد على القضاء الاستثنائي، متمثلا في عدة محاكم تم استحداثها، مثل محكمة الشعب ومحكمة أمن الثورة والمحكمة الثورية وغيرها من محاكم كانت تحت سيطرة النظام بالكامل، وأصدرت أحكاما كثيرة مسيسة بما فيها أحكام الإعدام، سيئة الصيت، والتي نفذت في كثيرين، في شهر رمضان العام 1984، بتهم الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين أو التآمر لقلب نظام الحكم، من دون أن يكون لهم الحق في محاكمات عادلة ومستقلة، كما نصت كل القوانين والمواثيق الدولية التي شدّدت على هذا المطلب باعتباره حقا أساسيا من حقوق المواطنة. ونقلت الإعدامات على التلفزيون الرسمي، واختيرت لبثها ساعات الإفطار، لإرسال رسالة واضحة إلى الجميع، إن هذا هو مصير كل من يتجرّأ على معارضة النظام أو انتقاده أو المطالبة بالتداول السلمي على السلطة أو الانتماء لأيّ حزب. ومؤسف أنّ القذافي نفسه أشاد بهذه الإعدامات، إذ صرّح، في إحدى خطبه إلى الشعب الليبي، قائلاً: “شفتوا الإعدامات في شهر رمضان زي السلام عليكم، مافيش حرام، هذه عبادة، هذا هو الصح، مؤتمرات شعبية تشنق بلا محاكمة، أيّ كلب ضال حطّه في المشنقة”.

مع تصاعد حدّة الانتقادات لحقوق الإنسان في ليبيا، والضغط الدولي الذي مارسته الدول على النظام والعزلة التي فرضت عليه، كان لزاماً على النظام أن يبدي نوعاً من الإصلاحات، مكرهاً لا راغباً، ففي محاولة للتهرب من الالتزامات الدولية، وإعادة الاندماج مع الغرب، أصدر “مؤتمر الشعب العام” الوثيقة الخضراء الكبرى لحقوق الإنسان، والمقتبسة، في أغلب موادها من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والتي نصّت على ضرورة ضمان حق التقاضي، واستقلال القضاء، والحق في حصول كل متهم على محاكمة عادلة ونزيهة. وفي خطوة لاحقة، وبعد صدور تقرير منظمة العفو الدولية الذي أعقب زيارتها ليبيا في العام 2004، وطالبت فيه بضرورة إلغاء محكمة الشعب، واعتبرتها محكمة مبتدعة لإضفاء الشرعية القضائية على مطاردة المعارضين، رضخ النظام، مكرها، لطلبات المنظمة، إذ أصدر “مؤتمر الشعب العام” قراراً بإلغاء محكمة الشعب، إلّا أنّه، وفي الوقت نفسه، وبدلاً من إحالة القضايا إلى محاكم عادية، استحدثت محكمة أمن الثورة، نوعاً من التحوير، وأصبحت هذه المحكمة، والتي تغير اسمها في ما بعد إلى محكمة أمن الدولة، تنظر في القضايا نفسها التي كانت تُنظر أمام محكمة الشعب، ليستمر القضاء في ممارسة عمله تحت السيطرة الكاملة من الحكومة. ومما تواتر أنّ هذه المحكمة كانت تعرض أحكامها قبل صدورها، خصوصاً في القضايا الهامة، لأخد موافقة الحكومة والقيادة قبل صدورها.

نجحت انتفاضة فبراير في العام 2011، وكانت الحاجة ملحّة لبناء نظام قضائي مستقل، تجلى في الإعلان الدستوري الصادر في 30/8/2011، ونصّ صراحة على استقلال القضاء وحظر المحاكم الاستثنائية، وكفالة حق التقاضي أمام الجميع، وتم إلغاء رئاسة وزير العدل المجلس الأعلى للقضاء كما كان في السابق، وتم إعادة تشكيله برئاسة رئيس المحكمة العليا، إلّا أنّ الأمر لا يحتاج فقط إلى مجرد قوانين، خصوصاً في مرحلة النزاع، بل يحتاج إلى إشاعة ثقافة قضائية مختلفة عن التي سادت عقداً. وبما أنّ ذلك لم يكن بالأمر اليسير، فقد سُجّلت انتهاكات كثيرة في بداية ممارسة المجلس الانتقالي لسلطاته، ولوحظت حالات تدخل عديدة في أعمال القضاء، خصوصاً في تعامله مع قضية اغتيال اللواء العسكري المنشق، عبد الفتاح يونس، بالإضافة إلى تدخل بعض رؤساء المجالس المحلية في اختيار رؤساء المحاكم الابتدائية، وكثرة مجالس الاحتجاز، وعدم القدرة على تنفيذ أحكام كثيرة، نظراً إلى الافتقار إلى آليات لتفعيل تنفيذ الأحكام القضائية.

وأخيراً، كانت الفترة التي تقدّم فيها المرشحون للانتخابات الرئاسية الاختبار الحقيقي في استقلالية القضاء. على الرغم من أنّ القضاء استطاع أن ينأى بنفسه عن الدخول في أتون الصراعات التي حدثت، استطاع السياسيون جرّه إلى قلب النزاع، ليصبح من أطرافه، إذ حاول الجميع استغلاله في أحقية المترشّحين للسباق الرئاسي وقبول الطعون وغيرها من الأمور القانونية التي جعلت الجهاز القضائي في فوهة النزاع، الأمر الذي أدّى إلى عدم قدرة القضاة على ممارسة أعمالهم، فحُوصرت محاكم ابتدائية كثيرة ومُنع القضاة من الحضور وأُصدرت أحكام كثيرة تحت التهديد، وتدخل مجلس النواب من جديد في أعمال الجهاز القضائي، واتخذ، في توقيت حسّاس، قراراً بإعادة هيكلة النظام القضائي. وأجرى تغييراً على مستوى المجلس الأعلى للقضاء، وقرارات أثارت لغطاً كثيراً، واعتبرت تدخلاً في عمل القضاء وتعدّياً على استقلاليته. والخشية من أنّها قد تؤدّي إلى انقسام المؤسسات القضائية، ودخولها، كغيرها من المؤسسات الحكومية، في جدل حول قانونية كلّ منها.

على الرغم من تعافي النظام القضائي في ليبيا خلال السنوات الأخيرة، ومزاولته عمله بعيداً عن الصراعات السياسية، وقدرته على البقاء موحداً في وقت شهدت فيه أغلب المؤسسات الليبية انقساماً بين الشرق والغرب، يبدو أنّ الطريق ما زال طويلاً أمام استقلاليته وحياديته، خصوصاً في ظل انتشار السلاح وعدم وجود حكومة قادرة على حماية القضاة، وجعلهم يمارسون أعمالهم ويصدرون أحكامهم بدون خوف أو تهديد… ومطالبة القاضي بأحكام عادلة، من دون تحيّز، في هذه الظروف، الأشبه بمن “ألقوه في اليم مكتوفا وقالوا له/ إيّاك إيّاك أن تبتلّ بالماء”.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى