الرئيسيةالراي

رأي- الحالة الليبية وتطور الصراع

 

* كتب/ إبراهيم راشد

 

ليس هذا العالم الذي نعيش فيه سوى اسطوانة هائلة قائمة على قاعدتها، ارتفاعها مائتان وأربعون سنة (أكثر قليلا أو أقل) مفتوحة على مزيدٍ من الارتفاع، قاعدتها ثورة حدثت، وسقفها ثورة ستحدث، أو ينبغي أن تحدث، أما جسمها الذي شيدته أفكار وأفعال وأحلام بل وأوهام ملايين البشر من فلاسفة ومفكرين وقادة عسكريين، من فنانين ومهندسين، من صناعيين وتجار وجنود، ومن رعاع وغوغاء فقد ترتبت فيه الأمم تصاعديا تبعا لاستيعابها ومشاركتها في إنتاج ما أنتجته الثورة (في قاعدة الاسطوانة) من قيمٍ وأفكار ومفاهيم وعلاقات اجتماعية وسياسية واقتصادية وعسكرية جديدة، أو ما كانت تلك الثورة سببا لتفتيح السُبل لإنتاجه.

 

تحت الثورة الأولى، أو تحت قاعدة الاسطوانة، تستقر الفوضى الدنيا حيث مجتمعات البرابرة، أو مجتمعات ما قبل الدولة، ومعظم مجتمعات منطقتنا تعيش في مكان ما على الحدود بين هذه الفوضى الدنيا، فوضى ما قبل الاسطوانة، وبين المنطقة السفلى من الاسطوانة القريبة جدا من قاعدتها، فبعض هذه المجتمعات لامس الاسطوانة (غالبا ما كان الاستعمار هو المحرض المباشر لهذه الملامسة) وبدأ يتدرج فيها على استحياء وبعضها مازال يتخبط في حالة من البداوة والبربرية تسبق الدخول في زمن الاسطوانة.

أما فوق الثورة الثانية، سقف الاسطوانة، فثمة وعد بالفوضى العليا، حيث يُتوقع أن تظهر مجتمعات ما بعد الدولة، ومعظم الديمقراطيات الرأسمالية الكبرى تعيش بالقرب من ذلك السقف وتتخبط في حالة انسداد واضحة تمهد لقيام الثورة التي ستنقلنا، أو ستنقل تلك المجتمعات، إلى حالة الفوضى العليا، فالنخب الحاكمة في تلك المجتمعات ـ والأمر واضح جدا ـ لم تعد قادرة على التعبير عن مستوى الإحساس ـ وأحيانا الوعي ـ بالحرية لدى الناس في تلك البلدان.

وحسب قواعد الهندسة الفراغية فإن الدائرة هي قاعدة الاسطوانة، ومهما ارتفعت الاسطوانة مع الزمن فإن مواصفات هذه الدائرة لن تتغير وأي محاولة لتغييرها ستشوه الاسطوانة وقد حدثت محاولات تشويه “للاسطوانة العالمية” خلال القرنين الماضيين، حدثت عدة مرات، لكنها لم تنجح واستمر العالم يرتفع ويترقى ضمن مواصفات هذه الدائرة أو ضمن المواصفات الثورية الأولى التي حددتها الثورة الإنجليزية ـ الأمريكية ـ الفرنسية إذا ما اعتبرنا أن المرحلة الإنجليزية مجرد مقدمة، والمرحلة الأمريكية إلهام أو شرارة أولى، والمرحلة الفرنسية هي الانفجار الكبير لذات الثورة.

مواصفات هذه الدائرة عديدة لكن يمكننا أن نكثفها بالقول أن محيطها ـ محيط الدائرة ـ رُسم لكي يعبر عن مجموعة من الصراعات غير المحسومة، أملا في حلها من خلال التفاعل الذي سيحدث مع مرور الوقت والذي سينتج عنه تراكم للأحداث والتجارب وتتولد بواسطته المفاهيم وتنشأ العلاقات والتنظيمات الاجتماعية والسياسية التي ستُكوِّن، أو ستبني، جسد الاسطوانة.
أما عن طبيعة تلك الصراعات فيمكننا القول أنها الصراعات التي انتبه الإنسان في المجتمعات الرائدة إلى ضرورة حسمها في دولة ما بعد الثورة والتي ألخصها أنا في أربع ثنائيات/صراعات رئيسية هي:
الصراع بين “القوة والحق”، والصراع بين “النسبي والمطلق”، والصراع بين “الفردي والجماعي”، وأخيرا الصراع بين “الخصاصة والوفرة”.

 

ومع الوقت ومع استمرار الصراع في داخل المجتمع الواحد أو بين مجتمع وآخر حول هذه الثنائيات ارتفعت الدائرة (كثيرا ما ارتفعت على الأشلاء وشيدت بالدم، لكن دائما ما كانت الملاحظة والتعليق والتنظير هي الدعائم الثابتة لهذا البناء الحداثي الضخم) وصارت تعلو وتعلو، ثم تحولت إلى اسطوانة هائلة كان في سقفها دائما تلك الشعوب التي اقتربت من إحداث التوازن تنظيريا أولا، وعمليا على الأرض ثانيا، بين هذه الثنائيات وفي قاعها ظلت الشعوب التي مازالت في بداية التعرض لهذه العملية … عملية إحداث التوازن.

سأشير بسرعة إلى بعض التساؤلات التي وجّهت تطور الصراع (الجدل) الذي شُيد بناءا على نتائجه جسم الاسطوانة:
في الصراع بين “القوة والحق” برزت أسئلة مثل:
هل يحكم الملك بالقوة أم أنه يحكم بالحق؟، وهل الحق والقوة مرتبطان أخلاقيا؟، هل هما مرتبطان عمليا بافتراض انفصالهما أخلاقيا؟ .. هل يمكننا الفصل بينهما؟، هل يحق لكل قوة أن تحكم باعتبار أن هذا أمر يتعلق بطبائع الأشياء ولا يمكننا تجاهله، أم أن من الممكن تحييد القوة … من أين يأتي الحق في الحكم، ومن أين تأتي القوة التي تنازع صاحب الحق في حقه؟
واستطاع العالم بعد تجارب مريرة تحييد القوة، أو تحييد مظهرها الخشن على الأقل، إلى أقصى درجة ممكنة، فأحدث تغييرا جذريا في بنية الجيوش التي كانت تتشكل من ميليشات يقودها “أمراء حرب” من نبلاء وإقطاعيين (ومماليك) يجتمعون ويفترقون، يتحاربون ويتحالفون، ينصرون هذا الملك أو يسقطونه، وفقا لمصالحهم وانحيازاتهم الذاتية، لتتحول الجيوش إلى مؤسسات احتكار عنف ضخمة ومحايدة ليس في داخلها ولاءات لمصالح، ولا تستجيب لعقائد الأفراد ومذاهبهم الشخصية.
(لاحظوا أن الميليشيات في ليبيا تشبه جيوش القرون الوسطى).

في الصراع بين النسبي والمطلق برزت أسئلة مثل:
هل الدولة شأن دنيوي أم أنها شأن ديني، هل عليها أن تربي الناس، أن تمارس “الدعوة” فيهم، وأن تمتلك عقولهم وأجسادهم وأن توجه أرواحهم؟… أم أن واجبها ينحصر في خدمتهم بتوفير الأمن أولا، ثم بإدارة كفاءاتهم وتوظيف مواهبهم بالشكل العادل وتحقيق الحرية فيهم، وهل هدف الناس من تكوين الدولة هو استخدامها للدخول إلى الجنة بعد الموت أم أن هدفهم من اختراعها هو تسهيل هذه الحياة المؤقتة (60 إلى 80 سنة في المتوسط) على الأرض وتنظيمها وتحقيق سعادة الفرد مع الحفاظ على استمرار الجماعة.
هل يمثل الدين خلاصا جماعيا، أم أن الدولة، بطبيعتها، هي من تمثل الخلاص الجماعي ولا يمكن للدين ـ بطبيعته ـ إلا أن يمثل خلاصا فرديا؟
واستطاع العالم بعد تجارب مريرة ترك المطلق للأفراد، يؤمنون بما شاءوا ويعبرون عن هذا الإيمان بالطريقة التي يرونها مناسبة، بينما جُعلت الدول مكانا للنسبي فهي لا تكون إلا محايدة (علمانية) تجاه الأديان والمذاهب والطرق والتصورات الدينية

في الصراع بين الفرد والجماعة كانت الأسئلة كالتالي:
من هو المستهدف في المجتمع الفرد أم الجماعة، هل على الفرد أن يعمل لصالح الجماعة أم أن على الجماعة أن تعمل لصالح الفرد، أم أن على الفرد أن يعمل لصالح نفسه بما لا يضر بالجماعة (الصالح العام)، وعلى الجماعة (مؤسسات الدولة) أن تعمل لصالح الجماعة (الصالح العام) بما لا يضر بالفرد، وهل يجوز للدولة أن تسمح بوجود جماعات وسيطة بينها وبين الفرد كالقبيلة والطائفة، هل الحزب امتداد للقبيلة والطائفة كجماعة جزئية وسيطة بين الفرد والجماعة الكلية “الأمة”؟، هل من المناسب أن نكتفي بحزب واحد يمثل وحدة الأمة فنتجنب خلق جماعات وسيطة ذات مصالح جزئية قد تؤدي إلى تفتيت المجتمع؟، أم علينا أن نكيف الأحزاب والنقابات والاتحادات، ونضبطها بالقانون لكي لا تتحول إلى قبائل وطوائف حديثة؟
من هذا الصراع ظهرت دولة المواطنة، أو الدولة الوطنية الحديثة، ونشأ المجتمع المدني للدفاع عن مصلحة الفرد بما هو فرد في مقابل سلطة الأمة لا بما هو جزء من جماعة جزئية تقابل الجماعة الكلية.
(لاحظوا كيف تحولت الجماعات الجزئية في ليبيا، وفي المنطقة عموما، إلى هويات حادة وواضحة، تحاربت ومارست أقذر الأساليب وأحطها للانتصار على الجماعات المنافسة)

وأخيرا في الصراع بين الخصاصة والوفرة، أو بين الفقر والثراء يصبح السؤال:
هل من الأخلاقي أن يموت الفقير من الجوع بينما يموت الأثرياء من التخمة، وهل يجوز أن يعمل العامل عشرة أو اثنتي عشرة أو أربع عشرة ساعة، ويفقد عمليا فرصته في الحياة، لكي يزيد من أرباح الرأسمالي الذي لا يعمل أبدا، ألا ينبغي أن يمتلك العمال أدوات الإنتاج ليكسروا عبوديتهم لرأس المال؟، لكن ألا يعتبر هذا من وجهة نظر الحق والحرية اعتداء على حريات الناس وحقهم في الاستفادة من ذكائهم واستثمار مواهبهم بتحويلها إلى نشاطات صناعية أو تجارية مربحة؟
واستطاع العالم، أو مازال يحاول، حل هذه المشكلة بمجموعة من الإجراءات والقوانين التي تحد من الفجوة بين الفقير والغني (في الدولة الواحدة)، وهي إجراءات وقوانين مزجت عمليا بين الأفكار الاشتراكية والأفكار الرأسمالية.
ومن هذا الصراع اختنقت الأيديولوجيا..

هذه العملية “الجدلية” المستمرة، وهذا الإصرار على إحداث التوازن قرب الدولة من أن تتحول من كيان اجتماعي غير دقيق إلى كيان علمي يمكن حسابه، وهذا ما ساهم في إضعاف الأيديولوجيات.

الثورة في أحد تعاريفها هي التغير الكمي الذي ينتج عنه في لحظة التغير الكيفي، واعتمادا على هذا التعريف فإن الثورة ممكنة في مكانين:
المكان الأول يقع تحت الاسطوانة حيث البرابرة أو شعوب ما قبل الدولة (في منطقتنا شعوب الخليج والسعودية بالتحديد أبرز مثال على ذلك) وهذا النوع من الثورة* سيدخل تلك الشعوب إلى الاسطوانة لتبدأ مسيرتها في التطور والارتقاء في جسد الاسطوانة (التغير الكمي)
أما المكان الثاني فهو سقف الاسطوانة حيث الرأسماليات الكبرى أو ما يعرف دعائيا بـ”العالم الحر” فهناك يبدو أن التطور (التغير الكمي) قد وصل إلى مستوى قريب من الانفجار (التغير النوعي) ..وهذه الثورة سوف تخرج العالم من الاسطوانة وسوف تغير نهائيا شكل الدولة معتمدة على قاعدة جديدة تتضمن ثنائيات/صراعات/جدليات جديدة تماما.

وفي النهاية ومادامت الثورة في سقف الاسطوانة لم تحدث بعد، وبمناسبة أحداث الشهرين الماضيين في طرابلس ولأن سكان ليبيا قرروا ـ بتهور لا يستغرب منهم ـ كتابة دستور للدولة (تأسيس زمن السلم) قبل أن يوقعوا اتفاقية سلام (إنهاء زمن الحرب) فإنني أنصح ـ وأنا لا أحب النصائح ـ كل العصبيات الجهوية والقبلية والطائفية والطبقية الليبية المسلحة أن تجلس بكل ندية وأن تتفق بكل وضوح على استعادة شكل الدائرة في حده الأدنى وهو الشكل الذي شوهه كسر الاجتماع الحادث سنة 2011 وأن يتم ذلك بتحديد نقاط التوازن التي ينبغي الانطلاق منها فيما يتعلق بهذه الثنائيات الأربع:

“القوة والحق”:
مسألة الاستبداد، أو علاقة الجيش والأجهزة الأمنية بإدارة الدولة
“النسبي والمطلق”:
مسألة العلمانية، أو علاقة الدين والمتدينين بإدارة الدولة والتحكم في الفضاء العام
“الفردي والجماعي”:
مسألة المواطنة والمجتمع المدني، أو علاقة الأفراد بالدولة ومدى تدخل الهويات الجزئية وتحكمها في الشأن العام
“الخصاصة والوفرة”:
المسألة الاقتصادية، أو المشاركة العادلة في الثروة

عندها فقط سيكسرون حاجز البربرية ويعودون إلى قاعدة الاسطوانة ويصبح من الممكن عندها كتابة دستور يلتزم بنقاط التوازن المتفق عليها ويمهد لعملية تدرج جديدة للمجتمع وللدولة الليبية صعودا في جسد الأسطوانة..

ومن يدري، فربما يولد فينا جيل من الفلاسفة والأدباء والعلماء والقادة العسكريين والسياسيين والنشطاء المدنيين الذين سيسرعون بنا ويحرقون المسافات لنجد أنفسنا وقد وصلنا إلى السقف، سقف الاسطوانة، ولحقنا بهذا العالم، وشاركنا في إحداث الثورة، من يدري؟! .. ودخلنا مع الأمم المتحضرة في مغامرة الفوضى العليا!.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*عندما نتحدث عن الثورة في السعودية أو في أي مكان من العالم فنحن بالتأكيد لا نقصد أي شيء يشبه ما حدث في المنطقة منذ سنة 2011 بل إننا نكاد نقصد أن تحدث أشياء هي من حيث نوعية الناس ومن حيث القيم والشعارات والوسائل والغايات في النقيض مما حدث تلك السنة.. فأحداث تلك السنة وما تلاها من سنوات ليست أكثر من انفجارٍ رهيب لأمعاء بعض الدول والمجتمعات داخل أجسادها المغلقة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى