
العربي الجديد-
استقبلت القاهرة صدام حفتر، يوم الاثنين الماضي، بصفته شخصية عسكرية رسمية، تماماً كما استقبلته واشنطن وأنقرة وباريس وروما من قبل.
هذا الاستقبال الدبلوماسي والعسكري الدولي المتكرر لشاب ثلاثيني يحمل رتبة “فريق”، لا يعكس بالضرورة اعترافاً دولياً بشرعيته أو بتوريث المناصب العسكرية والسياسية، بقدر ما يسلط الضوء على حقيقة أن الشرعية الحقيقية التي تمنحها الدوائر الدولية تعمل في الغالب مع الصفات الرسمية للمؤسسات النظيرة بغضّ النظر عمن يشغلها، وهو وجه المأساة في ليبيا، فما يحدث فيها هو تجسيد صارخ لظاهرة الأسر المتنفذة التي تسيطر على مفاصل ما تبقّى من الدولة، تحت مسميات رسمية تخفي واقعاً عائلياً ضيقاً. فصدام، ومعه شقيقه خالد، وجهان بارزان في مشهد حكم والدهما الذي حوّل قيادة الجيش إلى حكم عائلي صريح في الشرق الليبي.
قد يكون هذا الأمر متداولاً ومعروفاً في المشهد الليبي، لكنه لا يقتصر على عائلة حفتر لوحدها، بل هو نمط متكرر ومتجذر في جغرافيا ليبيا بخلفية تاريخية قبلية. لكن ما يجب الالتفات إليه هو دلالة مسميات بات يطلقها الليبيون على الحكم العائلي بشكل واسع في السنوات الأخيرة، تعكس أنهم لا ينخدعون بالمسميات الرسمية الزائفة، بل أفرزوا قاموساً توصيفياً خاصاً يحمل في طياته نقداً ورفضاً لـ”حكم العائلات”.
مثلاً فإن للواء السابع، الذي حكم مدينة ترهونة المحاذية لطرابلس لسنوات طويلة بوصفه ذراعاً عسكرية لحفتر، غاب تماماً مسماه الرسمي، وصار الليبيون يطلقون عليه مسمى “الكانيات”، نسبة لقائده محمد الكاني. كما تبدد اسم “جهاز دعم الاستقرار” الرسمي ليحل محله اسم “الغنيوات” نسبة لقائده عبد الغني الككلي (غنيوة) الذي عيّن أفراد عائلته للإمساك بزمام هذه المليشيا.
وفي المجال السياسي أيضاً يستخدم الليبيون هذه التوصيفات، فقد تحوّل مجلس النواب في نظر الكثيرين إلى إقطاعية لقبيلة “العبيدات” التي تقف خلف نفوذ رئيسه عقيلة صالح. وحتى حكومة الوحدة الوطنية تعرف شعبياً بـ”الدبيبات” نسبة لرئيسها عبد الحميد الدبيبة ذي المحيط العائلي المحكم الذي يصعب اختراقه.
الحقيقة أن هذه التسميات الشعبية ليست مجرد ألفاظ دارجة، بل هي شهادات صارخة على فشل المشروع الوطني واستبداله بنظام زبائني عائلي. فيجب ألا يُقرأ هذا الإفراز اللغوي الشعبي قبولا أو استسلاما للواقع، بل هو وجه عميق من وجوه الرفض، وصوت خفي يدعو لنزع الشرعية عن هؤلاء المتنفذين وتجريدهم من الأقنعة المؤسسية التي يتخفّون خلفها. فعندما تُختزل السلطة في “كانيات” أو “غنيوات” أو “دبيبات” وغيرها من المسميات، فهو إعلان شعبي صريح بأن ما يحكم ليس دولة بمؤسسات، بل عائلات بمليشيات وأجهزة أمنية وصفقات مشبوهة، فالسياق الذي ترد فيه هذه التوصيفات هو سياق الاستنكار.
استمرار الأزمة الليبية بوتيرة متشابهة ودورانها في حلقة مفرغة من الصراع على السلطة وتفكك المؤسسات وغياب الدولة، ليس مجرد نتاج أخطاء سياسية راهنة. إنه في جوهره انعكاس لبنية ثقافية وذهنية تاريخية متوارثة حول مفهوم الحكم والسلطة، بنية تسمح باستمرار نموذج “الحكم العائلي” أو القبلي وتكراره تحت أي غطاء حديث. حتى أن فترة الحكم الملكي، رغم تعدديتها النسبية، لا تزال تُختزل في الذاكرة الشعبية بـ”الحكم السنوسي”. هذا الإرث الثقافي هو البيئة الخصبة التي تنمو فيها ظاهرة الأسر الحاكمة اليوم. ولكن يبدو أن ما يطلبه الليبيون من خلال هذا النقد الضمني المتجسد في تسمياتهم الساخرة واللاذعة يظهر في رسالة واضحة، مفادها أن لا حل حقيقياً ودائماً للأزمة الليبية بدون تفكيك هذه الشبكات العائلية المتنفذة التي تخترق الجيش والسياسة والاقتصاد والمليشيات، فهو المدخل الأساسي لأي مسار حل جاد. وإن استقبلت الدول عائلة حفتر بشكل رسمي، بحكم العادة والبروتوكول، إلا أن الشرعية الأهم يمنحها أو يسحبها الليبيون يومياً عبر قاموسهم الناقد الذي يحمل في طيات ألفاظه البسيطة مفتاح أولى خطوات الحل.