
* كتب/ طارق القزيري
بقدر ما تبهرنا ديناميكية “النوافير” بجمالها الأخّاذ، فإنها ترسم بإسقاط رمزي مرير صورة لنظامنا الثقافي، الدائر في حلقة مفرغة من التكرار العقيم، والاستحواذ المرضي لمراكز قوى ثقافية متحجرة.
فالماء المندفع صعودًا ليهوي ويعود إلى ذات الحوض، ليس سوى استعارة صارخة لآلة ثقافية تعيد إنتاج نفسها بلا انقطاع، حيث تهيمن سلطة مركزية (شُلل اجتماعية وصداقات ومجاملات) تلتهم الأصوات الوليدة وتحيل الإبداع لسلعة قيمتها بالولاء، ومعيارها منطق المعارف.
ميكانيزم التكرار:
من المؤسف -كمثال فقط- أن تتأمل أجندة الليالي الثقافية الرمضانية أو غيرها، إن وجدت، لتكتشف انها مجرد إعادة ترتيب ظهور نفس الشخوص، أو الاتجاهات التي تمثلهم من سنوات ممتدة. وهذا لا يكون بغير مباركة سلطة الثقافة السائدة. فحنفية الثقافة لا تسيل إلا بمائهم.
يضحك “ميكانيزم التكرار” سعيدا، فالإبداع طقس لاسترضاء سلطة الكهنة. فليست النافورة آلة هندسية فحسب، بل نظاما رمزيا مغلقا، والماء المعاد تدويره هو “نتاج الشلة” المعتمدة، التي ترفض أي منتج لا يمر عبر مصفاة المركز المقدس.
النخبة الثقافية من كهنة المعابد القديمة، تحتكر حق تعريف الجودة وتصدر شهادات الاعتراف، وفق انحيازات تختلط فيها الأهواء الشخصية بحسابات القرب من السلطة، أو الارتياح العاطفي، ورغبة الهيمنة الشخصية النزقة. ولطالما كانت عبارة “لا يعرفه أحد” سببا في إقصاء صوت يستحق العلن.
وهنا تتحول الثقافة إلى ساحة ل “اقتصاد الريع” فالامتيازات من جوائز، مناصب، تمويل أو دعم، توزع على من يؤدون طقس الولاء، بينما يُرمى مبدعون حقيقيون خارج الأسوار بحجة عدم النضج أو الشهرة، وعموما مخالفة المألوف.
امتياز المركز:
فالمثقف الذي يرفض لعبة التحالفات يصبح كمن يلقي بكلماته في بئر مظلم يسمع صداها لوحده، أو بمعية المنبوذين مثله.
في جغرافيا هذه الثقافة ثمة مركز يحتقر الأطراف ثم يشكو فقرها، فالمدن الكبرى تختزل الثقافة في أحيائها، وإذ يصعب تمرير الموارد إلى الأطراف، أو لا يطالبون بذلك صدقا، تعود لتتهم الأطراف بالتخلف، لأنها تفتقر إلى البنى التحتية، التي لم يدافعوا عنها يوما.
وهكذا يواجه المثقف القادم من الهامش بمعضلة وجودية، إما أن يخون جذوره ويندمج في شبكة الامتيازات، أو يظل سجين هويته المهمشة.
حاكمية بلا إنتاج:
وحتى إذا نجح -أصيل الهامش- في اختراق الجدار فإن أدوات التهميش تنتظره، فالجوائز تمنح له كـ”كوتة وحصة تنوع”. والمشاركات تحوّل إلى فولكلور يعبر عن “الآخر” دون أن يسمح له بالانتماء للمركز او المجموع الوطني الأعم ببداهة.
هنا تغدو “السوشيال ميديا” -مثلا- ساحة تطهير رمزي، حيث تواصل النخبة التقليدية احتكار المنصات، رغم وهم الانفتاح الرقمي.
والمفارقة أن هذه النخب، التي لم تعد تملك حتى صحفًا أو مجلات وإصدارات مؤثرة، تخوض معارك أشد ضراوة عبر “الترند”. حيث قد يحقق نص تافه شهرة تفوق إنجازات مستحقيها، بفعل مضخات التفاعل الاصطناعي. أما التجاهل للهامشيين فهو القاعدة، والنقد يصير انتقاداً أحيانًا، ومجرد سلاح لتصفية الحسابات.
المجرى بديل النافورة:
الخلاص من هذه الدائرة يتطلب تمردا على منطق الامتيازات عبر إرساء ثقافة تعدد الينابيع وكسر “الكأس المقدسة” التي يحملها السدنة فقط:
على الدولة ومنصات الثقافة كسر احتكار النخب، فالإبداع ليس حكرًا على “شلة العادة” النافذة. أما “النافورة”، فليست إلا خداعًا بصريًا للتكرار الممل، تمامًا كجثة مزينة ننكر رائحتها لمواصلة الاحتفال.
الثقافة الحقيقية نهر جارٍ يعبر الحدود، يرفض الانحصار، ويحمل في تياره ألوان الحياة كافة.