
الناس-
في أربعينيات القرن الماضي امتلك مستوطن إيطالي مقهى في وسط مدينة مصراتة، صار له لاحقا شركاء من الليبيين، أصبح هذا المقهى القريب من نادي الأهلي المصراتي قبلة لأهل الفن والثقافة ونجوم الرياضة، وصار دون ترتيب مسبق صالونا ثقافيا.
وصف المقهى الثقافي حجز موقعه في ذاكرة المدينة، وأعيد إحياؤه في العقدين الأخيرين فلم تكد المدينة تخلو من مقهى “ثقافي” كل ما عليك هو البحث عنه.
حين افتتح “مقهى مصراتة” ذاك كان في المدينة بقايا من المستوطنين الطليان بالإضافة إلى الجالية اليهودية فكانت تقدم المسكرات به.. لكن مع فجر الاستقلال تأسس معهد القويري الديني، وسنرى أي رابط سيربط بين المعلمين، إذ سرعان ما شنّ مشائخ المعهد حملة ضد بيع المسكرات، وأجبروا المقهى على التوقف عن تقديمها، فأطلق عليه الناس وقتها من باب التندر “مقهى مصراتة الديني”.
في مدينة مصراتة، ورغم انتشار المراكز الثقافية في مرحلة ما. لكن الطابع الرسمي والتوقيت الرسمي وأمورا أخرى حالت دون أن تستقطب المثقفين، ولم يكن أنسب من المقاهي للتلاقي وبث شجون الثقافة دون قيد من أي نوع..
في مطلع الألفية أراد نادي السويحلي (الرياضي الثقافي الاجتماعي) تنشيط الجانب الثقافي فيه، فاستدعى الفكرة، وتوصل إلى افتتاح المقهى الثقافي بالنادي، واحتفي به أيما احتفاء، فصار ذلك المقهى قبلة للمثقفين، واستضاف الندوات والحوارات، وقامت اللجنة الثقافية بالنادي بكل ما يلزم ليصير قبلة للمثقفين. لكنها تجربة لم تستمر. فانقطعت الثقافة والقهوة أيضا.
ثوار مورغانتي!
بعد التغيير في 2011 نشطت مجموعة من الشباب لإحياء النشاط الثقافي برؤية معاصرة، إذا رأوا أن دعوة الناس لندوة أو محاضرة تقابل غالبا ببرود وإعراض، فكانت الفكرة: لماذا لا نذهب للناس بدلا من دعوتهم، فكان “مورغانتي”
افتتح شباب التغيير مقهى ثقافيا بمعنى الكلمة في 2012 كان له صولته في براح الثقافة، استضاف نخب المجتمع من سياسيين ومثقفين وفنانين تشكيليين وفرق غنائية، فنظمت ندوات وحواريات ومحاضرات، والتفتت وزارة الثقافة لرفد الفكرة فزودت المقهى بالكتب والمنشورات التي كانت في متناول مرتادي المقهى للمطالعة والإعارة.. إلى جانب انترنت مجاني..
لقد كانت تجربة جديرة بالإشادة. لكنها اصطدمت أخيرا بحاجز تخطي المصاريف للعائدات، والمقهى ليس مشروعا خيريا.. فتوقف السرد
يقول الفنان التشكيلي محمد كرواد أحد مؤسسي “مورغانتي” عن سبب التوقف: “في عالم الأعمال، أول ما يقوم به المستثمر أو صاحب المشروع هو دراسة سوق العمل و تحديد الجمهور المستهدف أو الفئة المستهدفة في هذا المشروع، وبتحليل بسيط يمكن القول بأن المقهى الثقافي هو مكان يقدم قائمة محدودة من المشروبات والحلويات ويجتمع فيه فئة قليلة نسبياً قوتها الشرائية ضعيفة، دخلها لا يتعدى المتوسط في أحسن الأحوال.. ولذلك فإن خصائص المستهلك المثقف (التقليدي) وفي ظل ظروف اقتصادية متردية بشكل عام لا يمكن أن تساعد في بناء أي مشروع ربحي مستدام”..
يتردد كرواد قليلا: “الأمر ليس مستحيلاً عندما تُقدم رؤية حداثية وتعريف صريح لمفردات الثقافة وأدواتها، وهذا حديث يطول. ولكن مثل تجربة مورجانتي، أستبعد أن تكون تجربة ربحية أو استثمار كان يُتوقع أن يحظى بعائدات مادية، بقدر ما يمكن وصفه بالمبادرة الممزوجة بالشغف وحالة الاندفاع، التي استعرت إبان سقوط النظام السابق. دونما انتباه أو تركيز لما سيؤول إليه مستقبل المشروع على المدى البعيد”.
اكتب تفاصيلك
مؤسس نادي أنا أقرأ المهووس بالأدب خاض التجربة هو الآخر لاحقا، ونسج على نفس المنوال، فكان “مقهى سيناريو”..
نفس المفردات تقريبا، قهوة ومشروبات ساخنة وباردة. إلى جانب براح للثقافة والأدب، ابتداء من تيمة العنوان “اكتب تفاصيلك” واللوحات الجدارية، وأرفف المقهى، ثم ندوات وحواريات وتوقيعات لكتب جديدة. ثم توقف!.. في سيناريو مكرر لسابقه.
يقول “سفيان قصيبات” مؤسس “سيناريو” إن التجربة كانت ناجحة جزئيا: “بالنسبة للمقاهي الثقافية بشكل عام، أعتقد أن التجربة كانت ناجحة ثقافيًا، لكن يمكن القول إنها كانت فاشلة اقتصاديًا” ويستطرد قائلا: “لو استطاع المسيرون توظيف هذه المقاهي بشكل صحيح، لاستطاعوا جذب جمهور أكبر. فالمقاهي يجب أن تكون جسرًا بين الثقافة وعامة الناس، وأن تخلق بيئة مريحة للجميع”.
ويتابع: “تجربة مقهى سيناريو تبرز التحديات التي تواجه المقاهي الثقافية، وخاصة في أوقات الأزمات. ومع ذلك، تظل هذه الأماكن أملًا للمثقفين، إذا ما تم إدارتها بشكل يتناسب مع احتياجات المجتمع وثقافته”.
وعن صعوبة التجربة: “كانت تجربة مقهى سيناريو صعبة للغاية، حيث جاءت في أوقات عصيبة تزامنت مع أزمة كورونا واشتعال الحرب في طرابلس. هذه الظروف الصعبة جعلت من الصعب جذب الزبائن والمثقفين، إذ كانت الأنشطة الثقافية تواجه عوائق كبيرة. على الرغم من الإقبال المحدود، حاولنا خلق مساحة آمنة ومناسبة للحوار الثقافي، لكن التحديات كانت أكبر من أن نتجاوزها بسهولة”.
وأخيرا المقهى الثقافي..
مؤسسة قلم الشباب. إذا فالشباب كان كلمة السر دائما
عن التجارب السابقة اختلفت تجربة “المقهى الثقافي” قليلا، فقد تحصل على تمويل سخي في انطلاقته الأولى، فشاهدنا قاعات مجهزة وديكورات باذخة نسبيا، فظهر المقهى في طابقين فسيحين على شارع رئيسي حيوي. وشرع من البداية في نشاط استثماري جانبي يقتضي الاستثمار في قاعاته للدروس والورش والأنشطة الأخرى، ورغم كل ذلك فقد وصل إلى مرحلة يعلن فيها عن التوقف، إذ قصرت العائدات عن تغطية التكاليف، فالثقافة لا تغني من جوع..
انتشل المقهى من أن يقع، لم يفصح المقهى عن الفاعل، ولازال يمارس دوره الثقافي، وقد رأيناه في هذا الشهر الفضيل يستضيف بشكل شبه يومي فعاليات ثقافية..
التجربة لازالت قائمة, ولن نسهب في الحديث عنها لئلا نقع في فخ الدعاية، لكن..
ماذا لو عدلت المراكز الثقافية اسما وظهرت في إطار مقهى ثقافي. أما كان أجدى؟