الراي

رأي- لا…

* كتب/ خليفة البشباش

 

مثل كثيرين، قادني يوم كهذا إلى قلب المدينة وساحتها الصغيرة، مثل كثيرين في باقي المدن أخرجتهم الحواري والأزقة والهوامش وألقت بهم في أحضان أحلامهم وآمالهم وفي قلب مدنهم.

لا يجمعهم سوى أنهم سئموا رؤية الخطأ المتواصل المتراكم دون أمل في تغييره، رغم انتظارهم عقودا من تقلبات الجنون السلطوي، طاقة صبر الإنسان عجيبة لا يتمتع بها مخلوق آخر .. لكن بدون أمل يصعب على أشد الناس جلدا أن يستمر، تدفعهم آلام ظلمهم، أو آمال حياة أفضل، لأجل حريتهم أو لأجل تحسين أوضاعهم، غاضبون من خنقهم وإذلالهم، أو من برك الصرف الصحي التي تطفح أمام عماراتهم في بلد النفط والحكم الواحد لنصف قرن!

وجدوا أنفسهم في الساحات يقولون “لا” للمرة الأولى في حياتهم.

 

لا زلت أذكر كل شيء، في تلك البلدة الصغيرة الوادعة، تجمعت حشود -كنت بفخر بينهم- من خلف ظهورنا مدرسة الطفولة ومن أمامنا مبنى الاستخبارات، فجأة بدأ وابل من الرصاص، كانت هذه المرة الأولى التي أجرب فيها هذا المشهد، تصرفت الغرائز ووجدت نفسي خلف ساتر، أدركت لاحقا أنه خزان بلاستيكي لا يقي من الرصاص! لا يهم فلا يتّقى القدر بالحذر، ومن لطف المقادير أن الرصاص كان في الهواء ولم يصب أحدا.
يومها عدت وأنا أسير الصدمة، كل شيء يبدو وكأنه مشهد سينمائي في فلم ما، الخوف والشجاعة، الخروج والعودة، صوت الهاتفين الغاضبين وصوت الرصاص، لا شيء يبدو مألوفا، في التلفزيون كان مذيعو “الجماهيرية” ومتحدثو “القائد” الرسميون ينعتوننا بأبشع الصفات، عملاء ومهلوسون وإرهابيون، وخذ قاموسا من الشتائم والتهم لا تنتهي، قبل أن يخرج كبيرهم ويعلن حربا لا عودة فيها، ويخرج كل سلاحه للبحث عمن تجرأوا على رفضه، من سمح لهم بالغضب؟ يجب أن يموتوا..

مرت الأيام بسرعة، ذات يوم في شهر أبريل كنت على وشك الخروج من منزلنا، فجأة سمعت صوت دوي انفجار صاروخي هز المنزل كما هز كل عرق فيّ، لا أتذكر لحظة مرعبة عشتها أكثر من تلك، لم يمنحني الصاروخ الثاني فرصة للخروج من صدمتي، الثالث والرابع والعاشر الخ، احتميت في أحد أركان المنزل، كانت المرة الأولى التي أسمع فيها صوت صواريخ، وكان لسوء حظي أشدها سوءا “الغراد”، من قوة الصوت اعتقدت أنه سقط في فناء منزلنا، عندما خرجت اكتشفت أنه كان في الواقع بعيدا عن شارعنا كله، بعيدا.. أو بعبارة أخرى “مازال ما ريت شي”.
أصبحت -نالوت- كمدن كثيرة ساحة رماية واسعة لأنواع الصواريخ حتى تكاد تصبح خالية من أهلها، خضت كما البقية كثيرا من الألم والفقد والبعد، وفقدت شقيقي الأصغر شهيدا كرفاق وأصدقاء كثر، وبقية القصة عاشها جلّكم.

الآن مرت سنوات..
أبواق “القائد” وجدوا “قيادة” جديدة يرتمون في أحضانها وحذاء آخر يلعقونه، ولا زالوا يحرضون على قتلنا لأننا لا نحب قائدهم “القديم والجديد” ومن لا يحبه “يستحق الموت” تقول ابنة القديم وأتباع الجديد!

يحارب سحبان تحت قيادة الفرنسي في غريان، ويحارب بن نايل تحت قيادة الروسي في القصر، وينتظران قصف طيران طحنون لكي يتقدموا بعد أخذ الأمر من القاعدة الإماراتية، هؤلاء كانوا في الماضي ينعتوننا بالعملاء ويمطروننا بوابل الشتائم القذرة في اللاسلكي، جل رجال القذافي بدءا من بوزيد دوردة مرورا بابن المدرج الأخضر الحويج المعروف بـ”التيروليزم” وصولا لأصغرهم -وكلهم كذلك- صاروا دمى -ولطالما كانوا- لكنهم اليوم دمى في يد الإماراتيين والمصريين والفرنسيين ووو ويخلق مالا تعلمون.

لازلنا غاضبين، ولازلنا نقول بفخر “لا”، ولا زلنا أحرارا كما ينبغي أن نكون، ولايزال المشهد متقاربا، جنود “قائد” -بحذف ال التعريف- يريدوننا أغناما وعبيدا لسيدهم، ولازلنا ندافع عن حريتنا بما نستطيع.. المجد لمن يقول لا، والخزي لمن ينحنون.

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى