الرئيسيةالرايثقافة

رأي- مقدار الفقد في رحيل المصراتي،

* كتب/ محمد الجمل،

(..أقُولُ التّاريخ الصّادق.. لأنّ التاريخ المُزيّف.. يُغلق الأبواب.. والنوافذ.. والشّبابيك.. ويجعل من الدجّالين.. والمُهربين.. والفاسدين.. والمُختلين عقليّا.. قياداتٍ لشعوبهم..) على مصطفى المصراتي

هل تدرك مقدار الفقد؟؟ ..

تخيّل معي ولادتك لعائلة هاجرت الأرض مع من هاجر بعد القضاء على حركة المقاومة الوطنية، ومطاردة نسلها في أرجاء البلاد، فتتشرّب التاريخ القريب من شفاه مُعاصريه، فتَتطّلع على حقيقة من جاهد ومن خان ومن دافع ومن باع ..

ثُم أن تكون شاهدا على ما فعل الطليان من عمار وخراب، وعلى الحرب العالمية الثانية وكواليسها، وعلى دخول الإنجليز لليبيا، وتحريرها من مستعمر، واستلامها من آخرين، وعلى وعد بلفور، لتعيش عروبيًّا قوميًّا حتى النخاع، تنحاز لقضايا الأمة ويُؤرقك هوانها..

ثُم أن ترى الوطن يتمزق بتكوين إمارة برقة ومجلسها وزيارة أميرها إلى بريطانيا واستقلالها، فتكون داعما للحراك الكبير الذي أَنْكَر فيه الأجداد الذّات، وانحازوا إلى استقلال البلاد تحت التاج الذي نفى وأغلق العمل السياسي والأحزاب، فتصدح بصوتك وقلمك، فتسجن مراتٍ ومرات، وتكون شاهدا على كل الحكومات التي أدارت البلاد وشاهدا على الفساد والإصلاح، وبعد ثمانية عشر سنة من الاستقلال والاعتراض كتابة وخطابة، تمارس التصحيح من فوق كرسي البرلمان وعلى رأس قائمة مطالبك، خروج القوات لمن شارك في ضرب مصر في 56 وأسهم في منح فلسطين وتشريد الشعب وقتل الوالد والولد، فالفاقة المُبَرِّرَة انتهت باكتشاف بحيرات السواد لكنها كانت بداية لفاقة أشد .

هل تدرك معنى أن تكون حاضرا لكل ذلك ثم تأتي ثورة من اجل تحقيق كل آمالك وللأسف تنكص على عقبيها بعد أقل من سنة، لتَتَراجَع وتبقى في الظل شاهدا متحسرا على ضياع وطن، وكأنما خلقت لتكون شاهدا فقط، وحتى بعد سقوط النظام لا زلت تقبع هناك في ذلك الظل الحارق ليكتم قلبك كل تلك الذاكرة السياسية ويحمل عقلك كل تلك الأفكار الحبيسة.

أي جرم أُرتُكب في حقّك وحقّ أمثالك يا شيخ، وأي شهادة على العصر لم تُكتب، وأي رواية لم تُسجل، وأي وجع بالخسران يُؤلم ويُؤرق..

كنت أمني النفس بلقياك.. أصافح تلك اليد التي أبدعت فأصافح معها بشير بك السعداوي وطه حسين ونجيب محفوظ و نزار قباني وغيرهم، ثم أستلم تلك القبضة التي دكت طاولات البرلمان بكلتا يدي وأهز ذلك الذراع الواهن رويدا رويدا كما هي العادة في السلام، ثم أستمع إلى ذلك الصوت الصافي الصادق الذي صدح بحب الوطن في كل مكان، وبعد الارتواء -ولا أظن،   وبعد إجاباتك لأسئلة كثيرة حبيسة بقلبي، أضع قبلة على تلك الرأس الحاوية لترليونات المعلومات عن الوطن والمجتمع والأدب والفكر مع وعد بتكرار الزيارة.. لكنك كنت إلى الله أقرب .

اليوم عصرا أهيل التراب وأغلق القبر على ذاكرة وطن.. غادرت ببطء يا شيخ (علي).. كان هناك متسع من الوقت لكل شيء.. لكنه الإهمال الذي صار عنوانًا لوأْد كل جميل ثم التحسر عليه وتعليق العراجين ..

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى