الرئيسيةالرايثقافة

هذا مالم يكن “المصراتي” يخشاه

* كتب/ خليفة البشباش،

ثمت حقول يتجنب كثير من الكتاب والمؤلفين الخوض فيها، حتى أولئك المتمكنون منهم، تلك الحقول التي تبدو كمجاهل لم يسبق لأحد طرق دروبها، والجرأة على التأليف فيها تعني جهدا بحثيا مضنيا إضافة إلى خلاصة معرفية متراكمة مع الزمن لا يمكن بأي حال من الأحوال التحايل عليها بكثرة الاستعانة المستعجلة بمراجع –إذ أنها في هذه الحال شبه مفقودة أو متشعبة- والإحالة إليها.

هذا مالم يكن يخشاه علي مصطفى المصراتي، وأظنه لا يجد نفسه إلا في خوض هذه المصاعب، في كتابه “مؤرخون من ليبيا” قام بجمع عدد كبير من السير الذاتية لمؤرخين ليبيين غالب إنتاجهم مخطوط ومتناثر بين مكتبات في بلدان شتى، اطلع بنفسه على معظمه وقدم نبذة تعريفية وافية عن كل كتاب وكل مؤرخ، في مؤلفه -بفتح اللام- الذي اعتمد عليه كل من بعده والمعنون بـ”صحافة ليبيا في نصف قرن” بحث عن كل مجلة وصحيفة منذ العهد العثماني، ونقل اقتباسات عنها وتعريفا وافيا بمحرريها وكتابها، وحتى تلك التي لم يعثر لها على اثر مثل صحيفة القناصل “المنقب” قام بجهد بحثي كبير للعثور على نسخة منها ولكنه لم يفلح ولا أعتقد أن سواه سيفعل، وامتد مشروعه هذا إلى تحقيق وإعادة نشر “مجلة الفنون” لداوود أفندي في مصنف خاص، في الكتاب الممتع “أعلام من طرابلس” وهو من كتبه المبكرة إذ صدرت أولى طبعاته في سنة 1955 حيث لم يكن قد أكمل عامه الثلاثين بعد تظهر جديته وبراعته في البحث، أبو إسحاق الوداني كان شاعرا من القرن الرابع الهجري لم يعثر له إلا على ثلاث أبيات يتيمة مطلعها:

“من يشتري مني النجوم بليلة ::: لا فرق بين نجومها وصحابي”

وما عسى الباحث أن يفعل إزاء هذه المعضلة، شاعر لا نعرف من سيرته شيئا يذكر ولا من شعره سوى ثلاث أبيات تدل على جودة شعره المفقود، أراهن أن أي مؤلف غيره كان سيتجاهله أو يكتفي بأسطر قليلة، لكن المصراتي قدم مقالة مطولة ماتعة تتبع فيها ما أحدثته هذه الأبيات الجميلة من رد فعل إبداعي، ونقل “تشطير” كثير من الشعراء ومعارضتهم لهذه الأبيات، إضافة إلى تتبع السيرة الغامضة لهذا الشاعر الفذ، يذكرني هذا ببعض كتاباته الأدبية رغم أنني لست قارئا كثيرا للأدب.. في مجموعته القصصية “صائدة الفراشات” تدور أحداث قصة كاملة جميلة داخل “تابوت” ولنحو عشر صفحات، لم يوقفه لا ضيق المصادر في البحث والتأريخ، ولا ضيق المكان في الخيال والقصة.

أخرج لنا المصراتي أعلاما و”نماذج من الظل” لم نكن نعلم عنها شيئا فصارت أسماء معروفة بفضله، وتعمق في فهم عادات وأفكار “المجتمع الليبي من خلال أمثاله” ومن خلال “التعابير الشعبية ودلالاتها النفسية والاجتماعية” وقدم دراسات جميلة في هذا الباب، واهتم بشعرائها ودواوينها فنقب وألف وحقق ليقدم “لمحات من الأدب الليبي” الذي كاد ينسى، أحب بلده بصدق، فكان وفيا لها بقلمه وجهده البحثي الذي لم ينقطع لعقود، يمكن قول الكثير عن مؤلفاته وإنتاجه الغزير، ويمكن تناولها إشادة ونقدا وتقييما كأي كتب لأي مؤلف آخر، لكن لا يمكننا سوى القول أنه لم يكن أبدا كأي مؤلف آخر، تودع ليبيا اليوم عالما موسوعيا قل أن يجود الزمان بمثله.. رحمه الله

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى