عيون

حفتر والانقلابات المقنّعة**

* أنس القماطي– كارنيجي

بعد أشهر قليلة من الهجوم المفاجئ الذي شنّه خليفة حفتر، زعيم ما يُسمّى بالجيش الوطني الليبي، على طرابلس في الرابع من أبريل للإطاحة بحكومة الوفاق الوطني المدعومة من الأمم المتحدة، فقدَ حفتر السيطرة على مدينة غريان في 26 يونيو. ومنذ ذلك الوقت، يخسر الجيش الوطني الليبي مزيداً من الأراضي في القتال العنيف الذي يدور في ضواحي طرابلس ضد العديد من المجموعات المسلّحة المدعومة من حكومة الوفاق الوطني. ولكن في الأول من يوليو، وبعد “استنفاد جميع الوسائل التقليدية” للسيطرة على طرابلس، قدّم حفتر الهجوم في صورة جديدة مشيراً إلى أنه مجهود لمكافحة الإرهاب، وأطلق عليه اسم عملية “عاقبة الغدر”.

لقد سبق لحفتر أن صوّر انقلاباته العسكرية الفاشلة بأنها “حروب على الإرهاب” لتبرير اللجوء المفرط إلى القوة سعياً لاكتساب شرعية دولية ودعم سياسي. ومع تعثُّر الحملة في أسبوعها الأول، تحدّث حفتر هاتفياً مع الرئيس الأميركي. وقد أثارت المكالمة سجالاً في البداية بسبب مخالفة الأعراف الدبلوماسية نظراً إلى أن حفتر لا يشغل منصباً رسمياً في الدولة.

ولكن يجب النظر إليها على ضوء إعادة التأطير التي أجراها حفتر لمحاولته الفاشلة من أجل السيطرة على السلطة. وقد ناقش حفتر وترامب “الجهود التي تُبذَل لمكافحة الإرهاب، وبناء الاستقرار الديمقراطي” في ليبيا.

ومنذ الاتصال الهاتفي، هدّدت الولايات المتحدة بالتصدّي للدعوات في مجلس الأمن الدولي من أجل تطبيق وقف لإطلاق النار، في تلميحٍ إلى تأييدها لرواية حفتر عن مكافحة الإرهاب. وكذلك عمدت فرنسا، التي تدعم حفتر لا سيما بسبب روايته المناهِضة للإرهاب، إلى تعطيل صدور بيان عن الاتحاد الأوروبي يُعبّر عن معارضة الهجوم الذي يشنّه حفتر. وبرّرت فرنسا خطوتها هذه بحاجتها إلى الحصول على تطمينات في ما يتعلق بـ”تورط المجموعات الإرهابية” المزعوم في القتال ضد حفتر في طرابلس.

يستند الدعم الدولي بصورة أساسية إلى اعتقاد مفاده أن حفتر يسعى إلى “إنقاذ” ليبيا من الإرهاب وإعادة إرساء الاستقرار والأمن في المدى الطويل. بيد أن التاريخ الحديث يُظهر أن سرديات حفتر عن مكافحة الإرهاب ليست مجرد محاولات سلطوية للاستيلاء على السلطة مقنَّعة بطريقة سيئة، بل إنها أيضاً لعبة خطرة قائمة على مبدأ “فرّق تسد” بين القبائل. فهذه المقاربة هي أبعد ما تكون عن مكافحة الإرهاب وبسط الأمن، لا بل إنها تساهم في استفحال النزاع وتتسبب بزعزعة الاستقرار في المدى الطويل.

 

من الأساطير التي غالباً ما تتكرر في ليبيا أن حفتر ظهر على الساحة بعد الانتخابات الثانية في البلاد لمحاربة الإسلاميين الذين سعوا إلى “إلغاء انتخابات 25 يونيو 2014″، وإنقاذ البلاد منهم. غير أن حفتر نفّذ انقلابه الأول قبل وقت طويل من الانتخابات الثانية – التي يرتبط صعوده ارتباطاً وثيقاً بها – وذلك في 14 فبراير 2014. لقد أعلن حفتر عن إنشاء جيشه الليبي أملاً بأن تنضم إليه الميليشيات المختلفة في البلاد وتساعده على تنحية أول برلمان منتخَب ديمقراطياً من السلطة. وقد كان تنظيم الانقلاب سيئاً جداً، بحيث إن النجاح الوحيد الذي حققه حفتر في ذلك اليوم هو أنه أصبح أول شخص في التاريخ يشن انقلاباً بواسطة موقع “يوتيوب”. ولكنه استحوذ على انتباه الحكومة الإماراتية التي كانت قد دعمت انقلاباً عسكرياً قبل أشهر عدّة في مصر. وفي 14 مايو 2014، ظهر حفتر على الساحة من جديد مدعوماً من الإمارات التي شنّت هجمات جوية لمصلحته، وصُوِّر انقلابه بأنه حرب على الإرهاب في إطار “عملية الكرامة”.

 

بدأت عملية الكرامة بشن هجمات جوية على تنظيم “أنصار الشريعة” الذي يُعرِّف عن نفسه بأنه مجموعة جهادية في بنغازي شرق ليبيا. ولكن حفتر شنّ في الوقت نفسه هجمات ضد مجموعات ثورية مسلّحة موالية للحكومة المنتخبة.

كان مؤيّدو الخطوة التي أقدم عليها حفتر يعتقدون أن جميع هذه المجموعات المستهدَفة تقف خلف الاغتيالات التي طالت نشطاء وعسكريين سابقين في بنغازي على امتداد عامَين. ويُشير منتقدو الخطوة إلى أن هذه المجموعات حاربت تنظيم أنصار الشريعة في السابق، وحاولت إنقاذ السفير الأميركي ليلة مقتله في بنغازي عام 2012. لم يدم هذا السجال طويلاً، فلم تكد تمضي 48 ساعة حتى اقتحمت المجموعات التابعة لعملية الكرامة البرلمان الليبي في طرابلس، ما أكّد الشكوك بأن ما يجري هو محاولة للاستيلاء على السلطة. وقد أعلن حفتر أن هذه الأهداف السياسية والخصوم العسكريين على اختلافهم ينتمون إلى المجموعة الإرهابية نفسها.

رواية حفتر عن مكافحة الإرهاب لا تُخفي نيّته الاستيلاء على السلطة بالقوة فحسب، بل تحجب أيضاً دوره في التسبب باشتداد الصراعات الإثنية-القبلية المعقّدة على السلطة بين المجموعات المسلحة التي ظهرت بعد الثورة. كان القذافي يُحكم قبضته على المناطق والمدن الليبية من خلال منظومة سلطوية معقّدة قوامها القبائل والمحسوبيات – فضمّ عدداً محدداً من القبائل إلى الأجهزة الأمنية والجيش، وأقصى القبائل المجاورة المنافِسة لها. لقد كان هذا الاحتكار القبلي للسلطة العمود الفقري للاستراتيجية التي اعتمدها القذافي للحفاظ على قبضته على النظام، لكنه أحدث انقسامات، وانهار عندما تسلّح المحتجّون وشكّلوا مجموعات ثورية مسلّحة جديدة رفعت التحدّي في وجه هيكليات السلطة التقليدية.

تنطلق عمليات حفتر العسكرية وروايته لمكافحة الإرهاب من محاولته إنشاء منظومته السلطوية الخاصة القائمة على القبائل والمحسوبيات. لقد استوعب حفتر القبائل الموالية له ومجموعاتها المسلّحة في الجيش الوطني الليبي، وجعل منها جيشاً له في حين ألصق بالقبائل المحلية المنافِسة صفة الإرهاب. ومثالٌ على ذلك العمليات التي نفّذها الجيش الوطني الليبي في بنغازي ودرنة. كانت بنغازي منقسمة إلى حد كبير بين معسكرَين عرقيَّين-قبليين متناحرين يتألفان من القبائل البدوية التي فقدت تبعيتها لنظام القذافي خلال الثورة، والقبائل المدنية التي شكّلت مجموعات مسلّحة ثورية جديدة.

لقد شنّ حفتر عملية الكرامة في بنغازي عبر استيعاب المجموعات المسلحة ذات الأكثرية البدوية في الجيش الوطني الليبي، وإطلاق هجمات في الوقت نفسه ضد المجموعات المسلحة الثورية (المؤلَّفة في غالبيتها من قبائل مدنية) وتنظيم أنصار الشريعة. وقد اختفت الفوارق الأيديولوجية بين المجموعات المستهدَفة من حفتر مع تشكيلها تحالفاً عسكرياً عُرِف باسم مجلس شورى ثوار بنغازي، للدفاع عن نفسها. وقد زعم منتقدو حفتر أن هذه المجموعات تتشارك فقط الجبهة الأمامية العسكرية نفسها ومعارضتها لحفتر، ولا تتشارك بالضرورة النظرة العالمية السلفية نفسها كما أنصار الشريعة أو الدولة الإسلامية. ووصفت الدولة الإسلامية أعضاء مجلس شورى ثوار بنغازي بالكفّار لإيمانهم بالديمقراطية ومشاركتهم فيها. لكن حفتر شدّد لوسائل الإعلام الدولية على أن جميع هذه التنظيمات تتألف من الدولة الإسلامية والمجموعات الإرهابية والمقاتلين الأجانب، غير أن كلامه هذا يُخفي رواية محلية خطيرة. فغالباً ما وصفت قيادة الجيش الوطني الليبي الأمر بأنه حرب لتطهير ليبيا إثنياً من القبائل التركية واليهودية، وهو تعبير مسيء تستخدمه القبائل البدوية للإشارة إلى النَّسَب الذي تعتقد أن القبائل المدنية في بنغازي تتحدّر منه.

تواجه قوات حفتر إمكانية خضوعها للتحقيقات بتهمة ارتكاب جرائم حرب بسبب رفضها تأمين عبور آمن للنساء والأطفال في الأراضي الخاضعة لسيطرة مجلس شورى ثوار بنغازي. وقد تعهّد المتحدث باسم حفتر بـ”أن مَن يتخطى سن الـ14 عاماً (بما في ذلك غير المقاتلين) لا يمكن أن يخرج حياً أو سيجري ترحيلهم إلى أردوغان (الرئيس التركي)”.

وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة، وصلت أعداد النازحين من بنغازي إلى ما لا يقل عن 100000 مدني طردهم الجيش الوطني الليبي معتبراً أنهم عائلات الإرهابيين.

وكانت المقاربة مشابهة تقريباً في درنة حيث نفّذ حفتر عمليته الثانية. يُشار إلى أن أبناء درنة هم في أكثريتهم من القبائل المدنية، وتعيش قبائل بدوية في البلدات المجاورة. وقد نجح تحالفٌ عسكري مؤلَّف من مجموعات إسلامية وضباط في الجيش الليبي في إلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة الإسلامية عام 2015. ولكن مصادر موالية للجيش الوطني الليبي قالت عنهم إنهم ينتمون إلى تنظيم القاعدة لإضفاء شرعية على حربها ضدهم، وذلك على الرغم من تركيبتهم المعقّدة، وإلحاقهم الهزيمة بالدولة الإسلامية، وتمكّنهم من تنظيم أول انتخابات ديمقراطية في درنة عام 2012. وقد كرّر حفتر السيناريو نفسه كما في بنغازي، فعمد إلى استيعاب القبائل البدوية من بلدة عين مارة المجاورة في الجيش الوطني الليبي بغية شن عملية “لمكافحة الإرهاب” وفرض حصار إنساني قال حفتر إنه سيؤدّي إلى “خنق” درنة. ويُعتقَد أن ربع سكان درنة كانوا قد أصبحوا، بحلول نهاية الحملة، في عداد القتلى أو المصابين أو النازحين. ولدى مغادرة درنة، قام جيش حفتر بطمس معالم اللافتات المؤدّية إلى المدينة، واستبدل اسم درنة بـ”عين مارة الجديدة”.

تبرز نقاط تشابه قوية في الحملة التي يشنها حفتر راهناً في طرابلس. فقد وصف الجيش الوطني الليبي قوات حكومة الوفاق الوطني في العاصمة بالإرهابية، على الرغم من أنها تضم مجموعات مسلحة حاربت الدولة الإسلامية في العملية المدعومة من الولايات المتحدة عام 2016. ومنذ خسارة حفتر لمدينة غريان، بات المعقل الأخير للجيش الوطني الليبي في الهجوم على طرابلس بلدة ترهونة المجاورة. الديناميكيات القبلية بين ترهونة وطرابلس معقّدة. فنحو ثلث أبناء طرابلس هم من ترهونة بحسب التقديرات. تشمل القوات المنضوية إلى جانب حفتر في ترهونة، قوات من خارج المدينة حاربت في طرابلس في سبتمبر الماضي، إنما أيضاً مجموعات مسلّحة نزحت من طرابلس في إطار صراع على السلطة عام 2016، وهي ترغب بشدّة في العودة إليها بهدف “الثأر”.

سوف يستمر حفتر في العمل على تأجيج هذه الانقسامات القبلية وتأليب مجموعة على أخرى في إطار صراعات النفوذ المعقّدة. لا يقتصر الخطر في طرابلس على أن المجتمع الدولي يُصدّق بصورة متزايدة رواية حفتر عن مكافحة الإرهاب، بل يكمن الخطر أيضاً في أن الأسرة الدولية تعتقد أنها ستكون حرباً قصيرة تولّد استقراراً في المدى الطويل. إذا انتهى الهجوم على طرابلس بالطريقة التي انتهى بها الهجوم على بنغازي ودرنة، فما ينجم عنه من ندوب الحرب والرغبة في الانتقام والكراهية القبلية والاستقطاب الاجتماعي سيجعل السلام الدائم هدفاً غير واقعي، والاستقرار أمراً يكاد يكون عصياً على التصوّر.

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*أنس القماطي مؤسّس ومدير معهد صادق  للسياسات العامة في ليبيا، تأسّس في طرابلس عام 2011.

** نشر على موقع مركز كارنيجي للدراسات يوم الثلاثاء (30 يوليو 2019م)

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى