الرئيسيةالراي

عن المدن … !!!

 

* كتب/ عطية صالح الأوجلي

 

في الأفلام المصرية.. كثيرا ما يتم تصوير حيرة ابن الصعيد وهو يدخل للقاهرة عندما يكتشف أن معظم سكانها لا يحملون لقبا عشائريا أو قبليا.. بل كثيرا ما يصادف شخصا اسمه مجرد سرد لأسماء أبيه وجده وربما جد جده…

هذا الانتماء يسبب حيرة وارتباكا في ذهنية من قدموا من مجتمعات عشائرية يقوم فيها تصنيف الناس وتحديد سبل التعامل معهم على اللقب العائلي أو القبلي الذي يحملونه… ويبقي سؤال الصعيدي لمن يقابله من أهل القاهرة..”ولا مؤاخذة.. هو حضرتك ابن مين في مصر؟”.. يبقي السؤال يلخص معضلة إنسانية تنتج عن تماس أنماط عيش مختلفة وتصنيف للهويات مختلف.

 

فالمدينة تقوم على فكرة العيش المشترك والانتماء إلى الجغرافيا لصنع التاريخ… المدينة فضاء مفتوح متجدد لا تقوم على عرق معين وإلا صارت قبيلة… المدينة قدرها وتميزها هو انفتاحها على القادم وسرعة انتمائه إليها.. بينما تقوم القبيلة على علاقة الدم.. القبيلة وراثة.. والمدنية اختيار.. لكل دوره.. ولكل أفكاره ومفاهيمه… وكل منهما هو نمط عيش مختلف أفرزته التطورات التاريخية وحاجة الإنسان إلى العيش المشترك والهوية الجماعية. لا يوجد خير مطلق ولا شر مطلق في أي منهما .

(1)

الانتماء إلى المدن لا يقاس بالأقدمية بل بالعطاء.. إذا ما انغلقت المدينة على نفسها تراجعت الحياة فيها وتحولت إلى قرية محدودة القدرات.. ولا تمنح الأقدمية في المدينة أي مزايا سوى التباهي الذي لا قيمة حقيقية له.

(2)

المدينة ليست مجرد تجمعات من السكان بل هي مجموعة من النظم والمؤسسات الإدارية والاجتماعية والقانونية والسياسية والاقتصادية والأمنية التي تشكل فيما بينها منظومة دقيقة تقوم على التضامن والتعاون والتكامل بين الأفراد. فخدمات المياه والعلاج والمواصلات والاتصالات والكهرباء والتسوق والسفر والتعليم والبناء والصيانة والأمن.. كلها مرتبطة ببعضها ارتباطا وثيقا… بحيث لو انفرط جزء من هذه المنظومة فإن المدينة تصاب بالشلل وتتراجع جودة الحياة فيها بسرعة كبيرة.

(3)

المدينة ليست فقط مكانا للعيش بل هي هوية وسلوكيات ونمط عيش. فلكل مدينة هوية خاصة بها تطلب من القاطنين فيها أن يحملوها ويراعوها ويعتزوا و يفتخروا بها. وكلما كانت هذه الهوية راسخة كلما نجحت في استقطاب وإذابة الهويات الأخرى لقاطنيها. كما أنه في المدينة يكوّن الفرد علاقات متنوعة قائمة على الاختيار الحر وعلى تبادل المنفعة ولا تقتصر على القرابة أو رابطة الدم.

(4)

المدينة إطار مفتوح متجدد لا يحتمل الانغلاق … و حياة المدن تكمن في قدرتها على الاستيعاب والتجدد والتواصل… قوة المدينة تكمن في قدرتها على جمع الناس، باختلاف مشاربهم، وآرائهم، وأيديولوجياتهم، وطوائفهم. لا وجود لمدينة قبلية أو طائفية أو عنصرية… وبقاء المدينة واستمرارها رهن بقدرتها على خلق جو من التصالح بين مكوناتها وعلى منح الجميع هوية جامعة تمكنهم من العيش المشترك.

(5)

المدينة هي الكيان الأكثر تطورا وتعقيدا في حياة البشر… لذا فهي تواجه العديد من التحديات الاقتصادية والسياسية والأمنية والبيئية… وتحتاج المدن إلى إدارة متطورة وفعالة وقادرة على التنسيق بين آلاف المهام التي تنجز بها يوميا.. وعلى التعاطي مع مشاكلها.. وعلى التخطيط لمستقبلها.. وعلى الحفاظ على مواردها والبحث لها عن موارد جديدة.. بدون هذه الإدارة تعم الفوضى وتزدهر الجريمة ويكثر الفساد وتصبح حياة المواطن جحيما لا يطاق.

(6)

لا تستقر الحياة بالمدن إلا بوجود سلطة محلية شرعية يمنحها السكان ما تحتاج من الدعم والتمسك بها ويرعونها كما يرعى الإنسان قارب نجاته.. ويراقبونها ويحاسبونها عبر آليات منطقية وقانونية. إذا ما نجحت في ذلك فإن هويتها ستترسخ وستزدهر وتبقى مصدرا للإعجاب والاعتزاز.

(7)

المدينة دونما تنوع في سكانها ودونما تميز في خدماتها… تصبح مجرد كتل سكانية مزدحمة.. قبيحة.. ولا تطاق.. !!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى