* د. نورالدين محمود سعيد
علي ماهر ترك موسيقى ليبية معطرة، الكل يترك موسيقاه ويرحل، لكن نادرون من يتركون موسيقى معطرة بخزامى الوطن، وياسمينه وعبق عشقه.
عمارة لحنية سامقة، وجمالية عظيمة، تفننت في نشر المحبة بصفاء، ولقد كان أغلب الراحلين من الموسيقيين الليبيين يكابدون بالفعل من أجل صناعة شكل لعمارة نغمية تمثل ليبيا وأهلها، ولقد عانى الفنان علي ماهر من أجل إكساب الشكل النغمي الليبي للموسيقى كثيرا، وكذا فعل محمد حسن والسليني، وغيرهم، رحمهم الله جميعاً، وها هو الملحن والموسيقار الليبي علي ماهر يلحق بهم إلى رحمة الله تعالى.
كان الفنان علي ماهر يبحث وبشكل دؤوب في خضم الازدحام اللحني على طول الخارطة من محيطها إلى خليجها، عن شكل يكون أقرب إلى مدننا وحوارينا وازقة قرانا وتراب بوادينا، ولقد جمع كل ذلك، أثناء ترحله في طفولته من مدينة لأخرى، بضرورة تنقل عائلته لظروف شغل والده الذي كان معلماً، فمن المدينة القديمة التي ولد فيها، إلى جنزور، ثم إلى غيرها من باقي مدن وقرى ليبيا، ولقد أفادته هذه التجربة كثيراً في عمليات التجميع تجميع الصور والأخيلة، لينظم من خلالها، عقداً فريداً من الأنغام الموشحة التي تتنفس كل ذرة من حبات تراب هذا الوطن الذي لم يهدأ أو يستقر على حال، لقد عشق علي ماهر الموسيقى، وأسكنها شرايينه، ورواها بالمحبة على امتداد الخارطة الليبية، عشق الموسيقى ليس بغرض الموسيقى، ولا بغرض الكلمات، ولكن بغرض أن يصنع من خلالهما شكلاً يحمل أهدافاً وطنية تربوية، لأنه يعلم أن واجبه يتمثل في هذا المسار بالذات، وإنه من خلاله سيشفي ظمأه من أجل صناعة تاريخ نغمي، يمكن العودة إليه والنهل منه، أو لنقل الاجتماع حوله، فترك من أجل ذلك شهادته الجامعية في الاقتصاد، في ظروف كان فيها خريج الجامعة أقرب إلى النجوم منه إلى الأرض في مجتمعنا الذي كان يتعطش إلى النهضة في شتى المجالات، هنا المفارقة، في أن يضحي بسنوات عمره وشقائه، وشهاداته العالية، ويتجه إلى مجال يعرف أنه الأسمى، لكنه ليس كذلك في نظر مجتمعه للأسف، هنا تزداد معاناة هذا الشاب في تحقيق أهدافه، لكنه يختار ما الزمته به إرادته، فيتغلب من خلالها على كل الصعاب، ليختار ما يعشق، ولقد فعل.
موسيقار يقرأ مشهد مجتمعه، ويبني عليه سيناريو ألحانه، بلا أي تطبيل أو طلب للشهرة، ومثلما يلتزم الجراح أن يذهب مباشرة لمكان العضو المريض لاقتلاعه، يفعل علي ماهر ذلك، لأنه لم يدخل حقل الموسيقى من العدم المعرفي، بل دخلها بعد مران كبير، ودراسة معمقة، وشهادات جامعية أخرى رافدة لعقله ولموسيقاه، فالموسيقى التي لا ترفدها المعرفة، لن يعول عليها أبداً.
جلس وتأمل واقعه، بلد ممزق يعد الأفقر في العالم، نال استقلاله بعد مرارة خسر فيها أكثر من ربع سكانه، حروب واحتلال وجوع، وخارطة مغتصبة، لم يهم في نغم نزق يلهث وراء جسد أو شهوات، كما تفعل الضباع وراء النعاج، لكنه جلس مع عقله، كان أكثر من نصف سكان ليبيا في المهجر، وكانت ليبيا تعاني الأمرين، أجانب، قواعد وفقر بلا حدود، من يخدم هذا البلد من يبنيه من يعيد له استقراره وينهض به، هكذا كانت الموسيقى بالنسبة لعلي ماهر تتساءل وتسأله، فأخرج رائعته اللحنية، طوالي مروح طوالي، عودوا إلى أهلكم، املؤوا قلوبكم بالحنين وعودوا، ابنوا بلادكم، ثم ألحقها بالكثير جداً بشبيهاتها من الأنغام والأغاني الهادفة، بلد الطيوب، وعالي صوت الحق اينادي، وشيله يا تيار، وشمعة وحيدة، وغيرها من الروائع الهادفة تغنى بها الكثيرون من مبدعي الاغنية العربية، موسيقى مكتنزة بالمعرفة والعلم والإبداع.
علي ماهر، فارس نغم يترجل، مايسترو مبدع، وإن كنا فقدناه وسنفتقده باستمرار، وهي إرادة الله تعالى، لإنسان كان يحتاج من وطنه إلى اهتمام ورعاية، وطبيب ماهر، وحزمة من الدعاء بلا نهاية..
