الرئيسيةثقافة

“الله وحده يعلم الحقيقة، لكنه ينتظر”

قصة للكاتب الروسي “ليف نيكولايفيتش تولستوي”

* ترجمة: سارة القصبي

في بلدة تُدعى فلاديمير عاش شاب يانع يعمل بالتجارة اسمه “إيفان ديميرتش ازكينوف” كان يمتلك محلين تجاريين ومنزل خاص به، ازكينوف شاب حسن الطلع لديه شعر كثيف مجعد، ملئ بالمرح والطاقة كان مولعا بالغناء، عندما كان أصغر بالعمر كان يُسرف في الشراب وعند تناوله الكثير منه يصبح أكثر شغبا وتهورا، لكنه توقف عن ذلك عندما تزوج والتزم فقط المناسبات وبعض الأوقات الخاصة.

في فصل الصيف قرر أكزينوف الذهاب إلى مدينة “نينجى فير”

بينما يلوح بالوداع لزوجته وأسرته، أشارت زوجته..

قائلة: “لا تذهب هذه المرة لقد راودنى حلم فظيع ولست مطمئنة لهذه الرحلة”.

سخر اكزينوف ضاحكا وقال: “تعتقدين أنني سأذهب للمرح والتنزه”.

ردت زوجته بوجل: “لا أعلم مما أنا خائفة كل ما أعلمه أنني رأيت حلما سيئا للغاية، لقد رأيتك عائدا من رحلتك وعندما رفعت عن رأسك قبعتك وجدت شعرك تحول من لونه الأسود إلى اللون الرمادى”.

ضحك أكزينوف مرة أخرى قائلا إنها إشارة حظ جيدة، انتظريني إلى أن أبيع كل بضاعتي وسأشترى لكِ هدايا رائعة من فير”.

-وبالفعل ودع أكزينوف عائلته وذهب في طريقه.

عندما وصل إلى منتصف الرحلة، قابل أكزينوف أحد أصدقائه التجار، وقررا أخذ استراحة ووضعا أمتعتهم في نزل صغير لقضاء الليلة به.

تناول أكزينوف أقداح من الشاي مع زميله التاجر، ثم ذهب كلا منهم لينام بغرفته.

لم يكن من عادة اكزينوف النوم متأخرا وكان يأمل في أن يسافر قبل أن تزداد حرارة الشمس ولذلك أيقظ سائقه فجرا ليستعدا للرحيل.

خرج أكزينوف للباحة الخلفية للنزل حيث ينام صاحب النزل ليدفع له أجرة مبيت الليلة، وخرج مسرعا.. عندما قطع مسافة خمسة وعشرين ميلا، توقف لإطعام الخيول.

فجأة انطلقت عربة تصدر أجراس رنين مختلفة عن باقي الأجراس، ترجل منها ضابط يتبعه جنديان، تقدم الضابط إلى أكزينوف وبدأ في استجوابه، سأله بهدوء من أنت؟ ومن أين أتيت؟

أجابه أكزينوف بالكامل عن كل ماطرحه وقال له: ” أترغب في تناول الشاي.”

لكن المسئول استمر في استجوابه

وسأله أين قضيت الليلة الماضية؟

هل كنت بمفردك أم مع تاجر زميل؟

هل رأيت التاجر الآخر هذا الصباح؟

لماذا غادرت الفجر؟

اجابة أكزينوف عن جميع اسئلته ولكنه أخبره لماذا تعاملني وكأنني لص؟ أنا أسافر في رحلة عمل خاصة ولا أرى أي داع لهذا الاستجواب!

أجابه المسئول أستجوبك بصفتي ضابط الشرطة الخاص بهذه المنطقة، ولأن التاجر الآخر وُجد مقتولا هذا الصباح ويجب تفتيش أغراضك الشخصية على وجه السرعة، فكك الجنود أمتعة أكزينوف وتم تفتيشها بالكامل، وفجأة!! أخرج الضابط سكينا ملطخا بالدماء مدفونا وسط أغراضه.

ارتبك اكزينوف وشعر بالخوف الشديد، سأله الضابط كيف وُجد هذا الدم على سكينك الخاص، حاول أكزينوف الإجابة ولكنه لم يستطع أن ينطق بكلمة واحدة وتمتم قائلا: “أنا -لا أعرف- هذا ليس لي.”

قال الضابط: “لقد فضحتك تعابير وجهك” أخبرني كيف قتلته؟ وكم من المال سرقت؟.

اقسم أكزينوف أنه ليس سارقا ولا قاتلا، وأنه لم ير زميله التاجر بعدما تناول معه الشاي بالأمس، وأنه يمتلك ثمانية آلاف روبل من ماله الخاص، أمر قائد الشرطة بتقييد أكزينوف ووضعه بعربة الشرطة وتمت مصادرة أمواله ونقله إلى أقرب سجن لأقرب بلدة مجاورة.

قام المحققون بالاستفسار عن حياة فلاديمير في بلدته فشهد البعض على إفراطه الأخير في تناول الشراب

ومن ثم تم إلصاق التهمة كاملة ضد أكزينوف عندما علمت زوجته بالأمر أُصيبت بالذهول التام، وذهبت لزيارة زوجها حاملة الطفل الصغير على كتفها والآخر يسير بجوارها.

في بادئ الأمر لم يسمح لها بزيارة زوجها إلى أن قدمت الزوجة استئناف لحاكم البلدة لزيارة زوجها وبالفعل قوبل بالموافقة، وعندما رأت زوجها مقيدا جنبا إلى جانب القتلة والمجرمين مرتديا بدلة السجون، سقطت مغشية لمدة طويلة وبعد أن استفاقت جلست بجوار زوجها تسأله: “أخبرني الحقيقة ياعزيزي ألم تكن أنت الفاعل؟”

اجهش أكزينوف في البكاء وأخبرها حتى أنتِ شككتي بأمري؟

ردت الزوجة سنقوم بالاستئناف والتماس العفو لرجل شريف مثلك عند حاكم البلدة .

عندما غادرت الزوجة ردد أكزينوف

قائلا: “لقد اشتبه الجميع بأمري حتى زوجتي، الله وحده يعلم الحقيقة، وعلي الاستئناف إليه فقط، وأقلع بالفعل عن أي أمل آخر أو توسل والتماس لأحد غير الله وبدأ يصلى لإظهار الحقيقة”.

حُكم على أكزينوف بالجلد وإرساله بعيدا إلى المناجم وتم جلده بالسوط حتى جُرح جسده وعندما تعافت جروحه تم إرساله إلى سيبيريا مع باقي المتهمين.

عاش أكزينوف ستة وعشرين عاما بالسجن وسط المجرمين حتى تحول شعره إلى اللون الرمادي، وغزا الشيب لحيته بالكامل، أصبح قليل الكلام قل مرحه وهزله، يمشى بصعوبة محنى الظهر، كثير الصلاة والانعزال.

تعلم هناك أكزينوف حرفة الاسكافي وكسب منها بعض المال والذي مكنه من شراء كتاب يدعى “حياة القديسين”.

وكان يقرأه في تلك الأوقات التي يتسرب قليل من الضوء إلى زنزانته، أو في أيام الآحاد بالكنيسة حيث يستمع إلى دروس العبادات، ويغنى فى جوقة الكنيسة حيث لازال يملك هذا الصوت العذب كالأيام الخوالي.

لقد نال أكزينوف احترام السلطات بالسجن نظرا لوداعته وأخلاقه، وأحبه الآخرون وأطلقوا عليه لقب الجد أو القديس.

عندما يريد أحدهم أن يقدم أي التماس لإدارة السجن كان يتقدم باسم أكزينوف حتى يتم قبوله، وإذا دارت أي من المشاجرات بين السجناء يعود الجميع لأكزينوف لحل النزاع والأخذ برأيه ويأتون إليه لتصحيح مسار بعض الأمور.

قضى أكزينوف مدة طويله بالسجن لا يعلم عن أولاده أو زوجته أي أخبار أو تفاصيل، وذات ليلة قدمت عصابة جديدة إلى السجن التف حولهم باقي السجناء ليسألوهم عن تفاصيل بلداتهم وأسباب القدوم بهم إلى هنا.

جلس أكزينوف ليستمع بإحباط إلى قصص المساجين الجدد، حتى تحدث أحدهم يدعى ماكار قادم من بلدة فلاديمير فسأله أكزينوف باهتمام هل سمعت عن تجار فلاديمير هل تعلم عن تاجر يدعى اكزينوف؟

فأجابه ماكار نعم أعلم عن أسرة أكزينوف إنهم أغنياء ولكن والدهم مُدان بالحكم في سبيبريا أيها الجد.

أما أنت ياجدى كيف أتيت إلى هنا؟، تنهد أكزينوف وقال بسبب خطاياي قضيت من العمر ستة وعشرين عاما.

ماهو ذنبك؟ سأل ماكار أكزينوف لم يجبه ولكن أجابه رفاق السجن عن قصة أكزينوف

فانتفض ماكار وصفع ركبتيه وقال: “كم هذا غريب أن ألتقي بك هنا، ولكن كم عمرك الآن ياجدي؟ ”

تساءل البقية عن اندهاش ماكار لرؤية اكزينوف وسألوه هل تعرف أكزينوف مسبقا؟ ولكن ماكار لم يجبهم إلا بقوله..

“أنه أمر رائع أن نلتقى هنا جميعا ياشباب.”

تحدث أكزينوف إلى ماكار قائلا: “لماذا أُصبت بالدهشة عند معرفة قصتي؟ هل تعلم من القاتل؟ فرد ماكار باستخفاف بالطبع أنه من وضع لك السكين بأمتعتك، ومن سرق الأموال أيضا، كيف يمكن لشخص أن يضع السكين تحت رأسك وأنت نائم كان بإمكانه بالطبع أن يوقظك.

شعر أكزينوف بداخله أن هذا الشخص هو القاتل الذى قتل التاجر تلك الليلة وظل مستيقظا طوال الليل متذكرا زوجته وأطفاله وكل شيء حرم منه، تذكر ليلة عزفه الجيتار والقبض عليه بتهمة لم يرتكبها، تذكر ليلة جلده والجلاد والواقفون حوله.

شعر بأنه يريد الانتقام الحق من ماكار ولكنه تمالك أعصابه وظل يردد صلواته طوال الليل.

ظل على هذه الحال لمدة أسبوعين لا يجد السكينة نهارا ويردد الصلاة ليلا، ولم يعرف النوم اثناء الليل، كان بائسا جدا ولا يعرف ما العمل.

وفى أحدى الليالي عندما كان يتجول ليلا، وجد اكزينوف بعض التراب يتدحرج تحت قدمه مكان أحد الأرفف التي ينام عليها السجناء.

فظهر ماكار مرتعدا وقال له: “إنه حفر حفرة في أرض السجن وكان يفرغ الرمال بحذائه في اثناء ترحيلهم من مكان لآخر، وعليه أن يكتم السر حتى نخرج جميعا من هنا.”

” عليك الصمت أيها العجوز حتى نستطيع جميعا الهرب، وإذا أبلغت عنى سيتم جلدي حتى الموت ولكن قبلها سأقبض روحك.”

علم الضباط والمسئولين بهذا الأمر وجاء الحاكم ليستجوب الجميع وقام باستدعاء أكزينوف نظرا لأنه الشخص الوحيد من بينهم لن يكذب وسيخبرهم بالحقيقة كاملة.

التفت الحاكم إلى إكزينوف قائلا: “أخاطبك لأنك عادل، وعجوز صادق أخبرني من قام بحفر هذا النفق؟”

ارتجفت شفتا أكزينوف ولم ينطق بحرف واحدا لمدة طويلة.

ساورته نفسه أن يُفسد حياة الشخص الذى أفسد حياته وأنهاها تماما، ولماذا يبقى السر تجاه هذا البغيض الذى قضى على عمره وأفناه في سجن لمدة ستة وعشرين عاما من الألم والوحدة!

ولكن إذا أخبرتهم الحقيقة وتم قتله من الممكن أن أكون مخطئا بحقه .

قال إكزينوف لن أستطيع أن أجزم بأي شيء سيادة الحاكم وها أنا أمام يديكم فلتفعل بي ما تشاء.

في هذه الليلة العصيبة استلقى أكزينوف في مرقده ممددا، وإذ فجأة طل في الظلام خيال شخص واقترب من سريره وجلس بجواره، وتعرف عليه فأنه ماكار

فقال له أذهب بعيد ماذا تريد منى اذهب وإلا أبلغت الحراس.

انحنى ماكار على مقربة منه وقال: “سامحني إيفان ديميرتش.”

فرد أكزينوف على ماذا؟

قال له: “أنا من قتلت التاجر تلك الليلة وأخفيت السكين بين أشيائك، وقصدت قتلك أيضا ولكن الضوضاء بالخارج منعتني وهربت بسرعة من المكان.

لم يجد اكزينوف مايسعه من القول ولا يعرف ماذا يفعل الآن!!

انحنى ماكار مرة أخرى وانزلق تحت قدميه وقال سامحنى!..اغفر لي!.. من أجل الله فلتسامحني

رد أكزينوف قائلا: “إنني عانيت طيلة الست وعشرين عاما! أين سأذهب الآن؟ ماتت زوجتي ولم يعد يعرفني أبنائي وانقضت حياتي! لا أملك مكانا أذهب إليه..”

ضرب ماكار رأسه بالأرض مرددا سامحني!

أنا تعيس أرجوك سامحني من أجل المسيح

وبكى ماكار وبكى معه أكزينوف كثيرا..

قال اكزينوف:

” سوف يسامحك الله”.

“ربما أنا أسوأ منك مائة مرة”.

وعندما قال أكزينوف تلك الكلمات انقطع شوقه إلى الوطن، ومات حنينه إلى الذهاب لأى مكان ولم يعد يرغب في مغادرة السجن مرة أخرى، بل وشعر بأن النور نما إلى قلبه بعد أن حل محله الظلام.

وتمنى أن تأتى ساعته الأخيرة.

وبالرغم مما قاله أكزينوف لماكار إلا أنه اعترف بالذنب وأسقط جميع التهم عن أكزينوف وعندما حلت ساعة إطلاق سراحه من السجن، كان أجله قد حان أيضا وقضى نحبه في نفس توقيت الحكم!!!

~~ تمت

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى