الرئيسيةثقافة

اللاءات في ألحان علي ماهر

* كتب/ مصطفى القعود

لماذا يقال عن إنسان ما بأنه عبقري؟ والإجابة لأنه دائماً يخالف السائد والمعتاد عند الآخرين، ولهذا هم قلّة.. وفي المقابل قد لاتعرف قيمة ما منحوه للإنسانية إلا بشكل متأخر أو بالصدفة أو بعد فوات الأوان، وقد يطيح به زمن العبث هذا بعيداً ويضيع كنزاً من الإبداع كان تحت أقدامنا فقط لو تواضعنا ونظرنا.

وعلي ماهر لن يكون عابراً أو نسمة عليلة فقط في جونا الخانق، أو محطة نتجاوزها لنذهب إلى أخرى انتظاراً لموعد الرحلة القادمة، بل سيبقى إبداعه إلى النهاية مظلة تحمينا من السفه والتهريج والتلوث السمعي والبصري، لأنه سهر وتعب وأجتهد وغاص في بحار النغم فكانت ألحانه لآلئ ودررا، والنتيجة أنها لامست قلوب الناس ثم استقرت فيها، والمتخصص في عالم الموسيقى أو المستمع المرتفعة عنده حاسة التذوق ويملك أذنا موسيقية -كما يقولون- لن تمر عليه ألحان علي ماهر مرور الكرام.

وفي هذه السطور سأحاول التطرق إلى بعض من عبقرية الموسيقار علي ماهر في صياغته ألحانه التي لم تأت بالصدفة أو رمية من غير رام.

شيء أسميته باللاءات حاولت أن أسقطها على أغان أتيحت لي الفرصة أن أستمع إليها بإمعان وتركيز شديد فلنبدأ… المعروف لدينا نحن العرب أن هناك لا النافية ولا الناهية، فكيف أبرز موسيقارنا ذلك في ألحانه، لنرى ذلك..

أول نموذج أغنية (ياشمس وين اتغيبي) للمطربة التونسية عليّا.. بدأت الأغنية بلا القلب قلبي، ولا حبيبي حبيبي، أنا ارميتهم ياشمس وين اتغيبي، فنلاحظ هنا أن لا النافية هي عنوان الأغنية وقد تكررت عند نهاية كل (كوبليه) ولكي يكون اللحن معبراً عن حالة الرفض عند المطربة رفعت صوتها عالياً (لا لا لا) ثلاث مرات.

بل إنها في اللّا الثالثة زاد صوتها ارتفاعاً وكأنها حسمت الأمر ووضعت نهاية لحكايتها البائسة فهي رمت القلب والحبيب وقت المغيب .

أما الأغنية الثانية فهي جوهرة أخرى لموسيقارنا، أرجوكم إن لم تستمعوا للفنان الخالد محمد السيليني وهو يتجلّى بالرائعة (لاتدبّري) عليكم أن تقتطعوا من وقتكم فقط دقائق لسماعها.. الجميل أن لحن الأغنية لم يأت اعتباطاً، انظروا إلى المقدمة الموسيقية الطويلة التي تشعرك بالرفض مع الحزن غير الظاهر علناً، ثم المشاعر المتضاربة التي تجسدها الآلات الموسيقية بين الحزن والرفض والحنين والشوق والحسم أيضاً.

ياه كم أنت مبدع أيها الملحن، والعبقرية تجسدت في أن محمد السيليني يبدأ الغناء بطبقة متوسطة لاهي بالعالية أو المنخفضة، وذلك بتعليمات من الملحن تعبيراً عن المشاعر المتباينة، والمختلف في هذه الأغنية عن غيرها أن لا الناهية فيها تكررت ثلاث مرات ثم (لا) لوحدها حاسمة قاطعة، وكأنها أقفلت النقاش في الموضوع وأغلقت باب العودة.

أما أغنية (لومي علي) التي لحنّها وتغنّى بها علي ماهر، وتغنّى بها أيضاً الفنان فتحي أحمد فقد اصطدت فيها (لا) في الكوبليه الأول، حيث أن الأغنية لم يكن موضوعها الرفض أو الهجر أو إغلاق الباب في وجه الحبيب، بل الأمر عكس ذلك كله، فهو يقول:

لاتشكريني لا لا لا (ودائماً ثلاثة ربما يعني أن الثالثة ثابتة)

مانريد وسام.. ومو عيب لو بين الأجواد ملام.. لومك سهل.. مرّك عسل.. لا تظلمي ليام.. ولا ع الغريب ملام.. لومي علي .

وكعادة الموسيقار علي ماهر في الألحان ذات الشجن والحزن الدفين يبدأ الأغنية بالناي، وكعادته أيضاً في استعماله الدقيق لآلة القانون التي دائما تقترن بالحب عند من يتعاطى الموسيقى ثم الإيقاع المتفرد الذي أشبهه بدقات القلب، كل ذلك وظفّه في هذه الأغنية التي اخترتها كنموذج آخر للتأكيد على موضوع دراستي المتواضعة هذه.

أما قمة القمم في لاءات علي ماهر فهي (هيه ننسى.. وننسى اللي ماينتسى من بالي ننسى.. إلا غلاك لاوالنبي ياغالي ..لا لا ….) .

إن أردتم الدليل القاطع لما أردت أن أوصله لكم من خلال السطور السابقة فأرجوكم ثم ألف أرجوكم استمعوا بتمعن وركزوا، وأستحلفكم بكل غال ونفيس لديكم أن تقولوا لي أنني على حق أو مخطئ .

الفنان مصطفى طالب قبل أن ينطلق في أداء كلمات أغنيته الشهيرة التي كتبها الشاعر الرقيق عبدالسلام زقلام، انتظر المقدمة الموسيقية أن تؤدي دورها كمدخل لما أراد قوله (وأي دور) يا إلهي ماهذا أيها الموسيقار العظيم؟ وماذا فعلت بنا؟ وكيف تطوّع الموسيقى لتطيعك صاغرة ذليلة، ولعل سائل يستغرب ويقول: كيف ذلك؟ هل أنت تبالغ لأنك تعشق ألحان علي ماهر ولهذا عاطفتك غلبتك ورمت بخيالك إلى البعيد!! حسناً حسناً (بالراحة شوية) .

روعة اللحن في هذه الأغنية يبدأ منذ بدايتها حيث تبدأ الكمنجات تعزف بل تنطق بلا لا لا (ثلاثة لاءات مرة أخرى) والأكثر روعة تنهي عزفها (بلا) واحدة حاسمة قاطعة والملفت للانتباه أن علي ماهر لم يعط للناي المساحة التي منحها له في أغاني أخرى بل استولت آلة القانون عليها بأمر من الموسيقار، ربما ليقول أن الأغنية بعيدة عن الحزن والحسرة والنكد بل هي إجابة عن سؤال طرحته الحبيبة على منوال: هل نسيتني، هل مازلت تحبني؟ وبعد أن تنتهي الكمنجات من دورها المنوط بها تدخل الإيقاعات الشهيرة (دقات القلب) على الخط ويبدأ مصطفى طالب في نفيه بعدم نسيانه لها فهو ينسى كل شيء حتى مالا يمكن نسيانه إلا حبها.. مؤكداً على ذلك بالقسم، ولاءاته الثلاث.

تتكرر اللاءات الثلاث الشهيرة في القصيدة الخالدة (ارحميني) للمطرب عبدالهادي بلخياط وذلك عندما يقول: أنا شمعة لا لا لا.. ثم.. لا أبالي .

ولا أريد هنا أن أضيع الفرصة في توثيق خواطري عن جزء بسيط من عمل فخم وقطعة ثمينة نادرة لأقول بأن في مقطع واحد منها تشكلت حالات لحنية مختلفة ومتباينة أولا: – الحدة وتأنيب الضمير، ويتضح ذلك في قوله :

فكوني نارا وألهبي ثياب ليلي، وأحرقي مني نهارا، وثانياً:- الهدوء والتوضيح بل لعله تقديم لمذكرة الدفاع.. حيث يقول: ما يشاع ذاك حبي رغب الموت انتحارا .

ثالثاً:- التسليم بالقدر والرضوخ للنتيجة، فيقول: وإذا الشمعة ذابت قتلت النار نارا (يعيدها ثلاث مرات.. هل هي صدفة تتكرر في ألحان علي ماهر).

رابعاً:- عدم الرضوخ والاستسلام، حيث يقول صارخاً: فلا ترحمي عقلي لاقلبي لاترحمي.

خامساً:- التحدي حيث يصرخ بصوت يزداد مع كلمات نهاية القصيدة فيقول لها :

فأنا بقيت.. وانتهت بك المأساة أنت.. وانتهت بك المأساة أنت.. تصرخ الموسيقى أيضا ثم تبدأ في التلاشي كأنها تنتصر لصاحبها لتشفي غليله من صاحبته التي استعطفها كثيراً، ثم لم يبق أمامه من سبيل إلا تركها .

في هذه الدراسة البسيطة حاولت أن أقول أن الأستاذ علي ماهر حالة متفردة في موسيقانا الشرقية، يحتاج منا إلى إعادة قراءة أعماله بشكل مدروس ومتأن؛ لأنه يستحق ذلك وواجب علينا تجاهه، لأنه مبدع يريد أن يعرف قيمة ماقدم وتأثيره في الآخرين، وهل وصل إلى عقولهم وقلوبهم، وإلا كل ماقام به حرث في البحر؟

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى