الراي

رأي- سقوط قشور التحضر الوهمي أمام الوباء

* كتب/ خليفة البشباش،

“إن صراخ الناس على ما يفقدون من أعزائهم عالٍ على الدوام، فلا تكاد تمضي ربع ساعة دون أن يرتفع عويل نادب جديد على ميت جديد، ولقد كثرت الوفيات حتى لم تعد تقام صلاة الجنازة على أصحابها إنما تجمع التوابيت ليجري إخراجها قبل الزوال من كل يوم فيصلى عليها وقت الظهر دفعة واحدة.
لقد هاجم الوباء مدينة طرابلس منذ شهرين وقد أزهق أرواح ثلاثة آلاف مخلوق في هذه المدة القصيرة”.

من مذكرات “مس توللي” في الأول من يوليو سنة 1785م، عن الطاعون الذي ضرب عدة دول في تلك المنطقة وقد نقلت تفاصيل المعاناة فيه في مذكراتها، تقول في موضع آخر:
“يتعذر علي أن أوفي هذا المكان حقه في الوقت الحاضر، ذلك أن الذعر الفظيع المنتشر هنا يعجز عنه كل وصف، لقد أخرجت أكثر من 200 جثة من بوابة المدينة هذا اليوم، هذا مع العلم أن مجموع سكانها لا يتجاوز 14 ألفا.. كما ارتفعت نفقات دفن الموتى وصارت العائلة تحمل ميتها إلى الباب، وتعطي الجثة لأى رجل يقبل أن يلقيها على كتفه أو يحملها بين يديه، وينقلها إلى المقبرة”.
تكمل توللي في إحدى رسائلها أواخر ذلك العام ردا على تهنئة وصلتها:
“نحن محبوسون، وسط هذا البلاء.. لذا فلن ننتفع بأمنياتك الكريمة لنا بسنة جديدة سعيدة إلا بقدر يسير”.
ولقد روت قصصا غريبة وعجيبة ومتناقضة عن تلك السنة، تحكي عن أناس يجوبون الشوارع ويحملون الجثث الميتة ويصلون عليها ويدفنونها، وعن أناس أصيبوا وتماثلوا للشفاء مرارا، وعن روح قدرية عجيبة لدى البعض، وخوف يائس لدى آخرين.. تروي قصة عن تاجر ثري جمع ماله وكثيرا من المؤونة وهرب من المدينة إلى جزيرة نائية صغيرة على الساحل الليبي، لكن مجموعة من اللصوص علموا بقصته فذهبوا لمكانه وسرقوا ما عنده، واضطر هو أن يعود لطرابلس بعد أن خسر كل شيء.
ذلك الطاعون لم يكن مقتصرا على ليبيا بل عم كثيرا من البلدان، وكان سبب انتشاره في طرابلس مجموعة من المصابين قدموا من تونس، وليس الوحيد فقد تكرر مرارا، ربما من أدرك من كبار السن قد سمع من بعضهم من حضر أشباهها وإن بوتيرة أقل.
في القرن الرابع عشر ضرب أوربا طاعون آخر كان مصدره أيضا الصين، سمي لاحقا بـ”الموت الأسود” قضى على قرابة نصف سكان أوربا، وكانت إيطاليا أيضا من أكثر المتضررين به، في سيينا كان هناك شخص يدعى “أغنيلو دي تورا” ترك بعض المذكرات عما حدث في بدايات الوباء وكتب يقول: “لقد دفنت أطفالي الخمسة بيدي.. والجميع يعتقد أنها نهاية العالم” ويروي في مذكراته كيف كانت الكنيسة والناس في المدينة يكدسون الجثث حفروا خنادق، حفر، حتى بعض القنوات الخاصة بالصرف الصحي امتلأت بالجثث، في نهاية المطاف مات أكثر من 60% من سكان مدينته، في بعض المدن تم إلقاء مائات الجثث في الأنهار.. لم يعد باستطاعتهم دفن كل تلك الأعداد.
هذه الاقتباسات ليست لبث الذعر، بل للتوضيح كيف أن البشرية هشة والحياة كانت شديدة القسوة قبل اختراع اللقاحات والأدوية وتطوير الطب، وكيف أن الإنسانية مدينة لهؤلاء الأجيال الذين طوروا هذه العلوم، وكيف أن الثورة الصناعية غيرت الكثير في حياتنا عن الأجيال السابقة دون أن نستشعر ذلك.

لحد الآن لا يوجد علاج لكورونا، وهو ليس فتاكا مثل الأوبئة القديمة، لكننا متمسكون بالأمل الذي كانوا يفتقدونه قديما وهو أمل الوصول إلى لقاح، وبوجود أنظمة صحية مهما ضعفت فهي أفضل من عدم وجودها.
وأيضا ثمت نقطة هنا لمن يبحث عن أسباب التخلف حتى لدى تلك الغنية ماليا بالنفط، هل تستطيع أن تقدم هذه الدول أي شيء يختلف عما كانت تقدمه في القرون الوسطى من نصائح الصبر والدعاء -وليس هذا تقليلا من الصبر والدعاء- وهذه الفجوة العلمية أبسط اختبار تسقط فيه قشور التحضر الوهمي أمام حقيقة أن أمما كاملة تنتظر أمما أخرى لإنقاذها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى