اقتصادالرئيسيةالراي

عودة إلى أزمة السيولة وسبل علاجها

* كتب/ د. محمد أبوسنينة،

سألني أحد الأصدقاء ممن يجتهدون في‎ سبيل إيجاد حل لأزمة السيولة في ليبيا، عن رأيي في جدوى إصدار قانون يمنع التعامل نقدا في تسوية بعض المعاملات، على غرار المعمول به في بعض الدول، وإلزام الأفراد بالدفع باستخدام الوسائط الإلكترونية في تسوية التزاماتهم، بما في ذلك الدفع في المحلات التجارية والأسواق، وتوثيق العقود، والدفع لغرض شراء الذهب بمحال بيع الذهب، بالإضافة إلى وضع حد أقصى من العملة الورقية لما يمكن للأفراد الطبيعيين الاحتفاظ به أو حمله من النقود عند التنقل من مكان إلى آخر، وفرض عقوبات على المخالفين، بهدف التخلص من الاعتماد على العملة الورقية، وحل مشكلة السيولة التي تؤرق الناس، ومنع جرائم غسل الأموال التي قد تصاحب المعاملات النقدية من خلال القطاع المصرفي.

وكان رأيي في الموضوع على النحو التالي :

‎أتفق مع أهمية التقليل من الاعتماد ‎على الدفع بالنقود مباشرة (المعاملات النقدية) في مختلف المعاملات التي يجريها الأفراد فيما بينهم ومع بعض الجهات الاعتبارية، والتوجه نحو المعاملات الإلكترونية والدفع الإلكتروني، والتوسع فيه بهدف التغلب على أزمة السيولة، وإصلاح القطاع النقدي والمالي في الاقتصاد الوطني.

غير أن لمشكلة السيولة أبعاد نقدية وأبعاد مالية، جعلت منها ظاهرة تسود وتختفي من وقت لآخر، وفقا لمعطيات الأداء الاقتصادي والمالي والسياسات التي تتبعها المؤسسات المعنية .

‎ففي اقتصاد نقدي ريعي (يعتمد على العملة الورقية في تسوية المعاملات كافة) يعاني من خلل بنيوي، ويعتمد على مصدر وحيد للدخل، نحتاج إلى اتخاذ أكثر من إجراء في إطار رؤية تستهدف تغيير الطبيعة النقدية للاقتصاد، من خلال القيام بإصلاح هيكلي للقطاع النقدي والقطاع المالي، ولا أعتقد أن إصدار قانون يجرم التعامل النقدي، أو حتى بعض أوجهه، ويفرض عقوبات رادعة على من يسوون معاملاتهم نقداً، بهدف التغلب على مشكلة السيولة، سيكون مناسباً لمعالجة المشكلة أو كفيلا بالقضاء على الظاهرة. ويأتي في مقدمة الإجراءات التي يمكن اتباعها، لإعادة هيكلة القطاع النقدي، وإحداث نقلة في بنية المعاملات النقدية والمصرفية وتجويدها، ومن تم معالجة مشكلة السيولة التي تظهر من وقت لآخر، مايلي:

أولاً: العمل على إعادة الثقة في‎ القطاع المصرفي (وفي المعاملات المصرفية) بتجويد خدماته وتنويع المنتجات التي تقدمها المصارف لزبائنها، للقضاء على مايعرف بمصرفية الظل، وتعزيز دور المصارف في الوساطة المالية. حيث تعتبر إعادة الثقة في المعاملات المصرفية التي تقدمها المصارف الليبية المدخل المناسب لتحفيز الناس على إيداع مدخراتهم بالمصارف، وهذه المهمة من ضمن مسؤوليات المصرف المركزي، خصوصاً في فترة مابعد الصراع، والذي عليه أن يضع خطة لها إطار زمني محدد لتحقيق هذه الغاية، وإحكام الرقابة على المصارف .

ثانياً: اعادة الثقة في الدينار الليبي ‎كمستودع للقيمة ووسيلة دفع، وذلك من خلال خلق أوعية ادخارية لدى المصارف، تدر عائدا مناسباً لأصحاب المدخرات، في شكل شهادات استثمار بصيغ مقبولة ومتعارف عليها، بما في ذلك التفكير في منح عوائد (أرباح) على الأرصدة الدائنة بالحسابات الجارية، ووضع سقوف لهذه الأرصدة التي تخول أصحابها الحصول على أرباح، تستقطع هذه العوائد من الأرباح السنوية للمصارف، عندما يتم توزيع الأرباح على المساهمين في نهاية السنة المالية، وهذه العوائد المدفوعة تعتبر مصروفات تُحمّل على الأرباح السنوية للمصارف، باعتبار المصارف تحتفظ بهذه الودائع تحت الطلب بدون تكلفة، وتجني من ورائها أرباحا من خلال العمليات المختلفة التي تقوم بها المصارف، ويمكن أن تؤسس هذه الرؤية على قاعدة لا ضرر ولا ضرار، وهذه أيضا تعتبر من ضمن مسؤوليات المصرف المركزي الذي يضع ويقرر السياسات المصرفية، والذي عليه العمل على تحفيز الناس على إيداع أموالهم بالمصارف عوضا عن اللجوء إلى إخراجها للتداول. بمعنى آخر بدلا من أن يقوم المصرف المركزي بطباعة وإصدار المزيد من العملة الورقية لمعالجة مشكلة السيولة وتوفيرها بالمصارف، ومن تم يقوم الجمهور بسحبها، عليه العمل على إيجاد وسائط كفيلة بسحب العملة من التداول وإعادتها للمصارف، باستحداث أوعية ادخارية تقوم المصارف بتطويرها، يعتمدها المصرف المركزي.

ثالثاً: الخطوة الأهم والأيسر التي على المصرف المركزي القيام بها، هي إلزام المصارف منح بطاقات إلكترونية مجانية لزبائنها، تربط بالموزع الوطني، تكون مقبولة في جميع آلات السحب الذاتي لكل المصارف العاملة، لكل من يدير حسابا جارٍ في مصرف، بمعنى إمكانية استعمال هذه البطاقات في كافة آلات السحب الذاتي للمصارف سواء كان المصرف صاحب الآلة مصدرا للبطاقة أو صادرة عن مصرف آخر، بحيث تلتزم المصارف بتنفيذ هذا المطلب وتسوية أوضاعها خلال فترة زمنية يحددها المصرف المركزي. وهذه تعتبر من ضمن اختصاصات المصرف المركزي، في إطار دوره الإشرافي والرقابي، وهي خطوة لم يلزم المصرف المركزي المصارف التجارية بها في السابق، رغم أهميتها، ويكفي لتنفيذها إصدار منشور ملزم لجميع المصارف العاملة، تأسيسا على أحكام قانون المصارف المعمول به، وفرض غرامات على المصارف المخالفة بالرغم من أن بعض المصارف باشرت في إصدار مثل هذه البطاقات .

رابعاً: حث المصارف وتشجيعها على فتح فروع إلكترونية، تتم فيها كافة المعاملات إلكترونياً (وتشمل هذه المعاملات: السحب والإيداع والتحويل من حساب إلى آخر، ومعرفة رصيد الحساب، وسداد الفواتير، والصرف) وهذا النوع من الفروع الصرفية موجود في الكثير من الدول الأخرى .

خامساً: إلغاء وسحب العملات الورقية من فئة الخمسين دينارا التي صارت تستخدم كوسيلة لاكتناز الأموال، وفي مرحلة لاحقة سحب الإصدارين الخامس والسادس من فئة الخمسة والعشرة دينارات المتداولة حاليا واستبدالها بإصدارات جديدة .

سادساً: تفعيل دور وحدات مكافحة غسل الأموال بالمصارف، وتفعيل القانون المنظم لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، من خلال ماتصدره اللجنة الوطنية لمكافحة غسل الأموال من قرارات ملزمة .

سابعاً: يلتزم المصرف المركزي بوضع سياسة تكفل عرض حد أدنى من النقد الأجنبي لمختلف الأغراض على أسس مستديمة، يتناسب مع ما تتطلبه الاحتياجات الفعلية للاقتصاد من السلع والخدمات الذي تحدده السياسة التجارية، وفقا للمتاح لديه من احتياطيات وما يرد اليه من إيرادات شهرية، بحيث لا يكون المصرف المركزي محابياً للاتجاهات الدورية في مايرد إليه من نقد أجنبي، أو أن يلجأ لتغير سياساته المتعلقة بعرض النقد الأجنبي من وقت لآخر، لضمان استقرار السوق وتوفر السيولة بالدينار الليبي بالمصارف .

ثامناً: تلتزم الحكومة بتغذية حساب المرتبات لدى مصرف ليبيا المركزي على أسس مستديمة وقبل نهاية كل شهر، حتى يتمكن المصرف المركزي من تحويلها إلى المصارف التجارية في أوقاتها وبدون تأخير، تفاديا للازدحام والفوضى التي يرتبها التأخير في دفع المرتبات، والرجوع إلى الترتيبات التي كان معمولا بها بين وزارة المالية والمصرف المركزي فيما يتعلق بصرف المرتبات، وأن تلتزم الحكومة بتسوية السلف التي يمنحها لها المصرف المركزي في نهاية كل سنة مالية، التزاماً بأحكام قانون المصارف والنظام المالي للدولة .

تاسعاً: إذا كانت هناك فئات من العاملين بالدولة ممن يستلمون مرتباتهم أو مكافآتهم نقدا، يجب العمل على منحها هذه المرتبات أو المكافآت إلكترونياً في شكل بطاقات مدفوعة القيمة مسبقا، يمكن تحصيل قيمتها من خلال آلات السحب الذاتي .

عاشراً: تعزيز برامج الشمول المالي، بحيث تصل الخدمات المصرفية لكافة المدن والقرى والدواخل، وأن تشمل هذه الخدمات؛ الدفع والسحب والتحويل والاستثمار، والصرف، الياً.

أحد عشر: إلزام الجهات التي تجبي إيراداتها نقداً مقابل خدماتها، مثل شركة الكهرباء، الجمارك، الضرائب، وشركات التأمين، والاتصالات، وشركات الطيران، بتحصيل إيراداتها إلكترونيا باستخدام البطاقات المصرفية، بقرارات ملزمة تصدر عن الحكومة، وإعطاء حوافز لمن يدفع إلكترونياً.

اثنا عشر: تأسيس نيابة متخصصة للجرائم المصرفية لضمان سرعة البث في المخالفات والقضايا المصرفية التي تحدث بشكل متكرر وعلى نطاق واسع، وهذا يعزز نظم الحوكمة في المصارف، ويكفل حقوق المتعاملين مع المصارف، ويحد من الجرائم المصرفية بأنواعها المختلفة .

‎ أي أنه لا حاجة إلى إصدار قانون يجرم التعامل النقدي في اقتصاد يتصف بأنه اقتصاد نقدي بنسبة 100%، وترتفع به درجة تفضيل السيولة، ويعاني من خلل هيكلي، لما قد يحدثه إصدار قانون خاص من إرباك في المعاملات وإضعاف الثقة في الدينار الليبي .

هذه مجرد أفكار كنت دائما أشير إليها فيما أكتبه من مقالات على صفحتي على الفيسبوك، في إطار البحث عن حلول لأزمة السيولة التي يشهدها القطاع المصرفي، وتجويد الخدمات المصرفية، وهي أفكار مبدئية في حاجة للإثراء والتطوير .

للكاتب أيضا: 

رأي- الآفاق الاقتصادية لسنة 2024

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى