الراي

أساطير ليبية… عن الحمام والصناديق والديمقراطية المباغتة

* كتب/ سالم العوكلي

 

يُحكي، ولا عهدة على الراوي، أن الملك العقيم مات فجأة ولم يكن للمملكة وريث للعرش، فاجتمعت الحاشية لتتدبر أمر الحكم، واستشاروا حكيم المدينة ليقترح حلا يخرجهم من هذا الفراغ الملكي، فأفتى لهم أن يطلقوا حمامة طائشة، ومن تنزل على رأسه يُبايَع ملكا، وكان أن أطلقوها فحلقت طويلا ثم حطت على رأس خادم يعمل في دكان صغيرة عند سيده طارق النحاس، وكان النحّاس رجلا حكيما وطيبا يحب الناس ويحبونه تبنى هذا الخادم حين وجده جائعا في الشارع لا أهل له ولا عزوة. ونصبوه ملكا في احتفال بهيج، ومع الزمن تحول إلى حاكم ظالم قاس عاث في البلاد والعباد تنكيلا وفسادا، وحار الحاشية في أمره، فقال حكيمهم: إن له سيدا نحّاسا حكيما وطيبا نخبره بأمر خادمه لعل يردعه عن الظلم. زار السيد خادمه السابق في قصره ولامه على ما يفعله مع رعيته وعلى ظلمه وقسوته عليهم، فقال له الخادم الملك: لو كان الله يريد لهم خيرا لنزلت الحمامة على رأسك.

عندما كنت في بداية  التسعينيات أتردد على مكتب التعليم من أجل إجراءات تعيين زوجتي التي تخرجت منذ خمس سنوات، كان مدير التعليم، الذي تربطني به علاقة قرابة، لا يجد ما يقوله في زياراتي الدورية لمكتبه سوى حكاية موت الحاكم والحمامة حتى حفظتها عن ظهر قلب، وكل مرة كان ينسى أنه حدثني بها سابقا. وكل ما كان يريد قوله أن الحظ السيئ يقف في طريقي، وهو حظ يتعلق بمصادفة تاريخية جعلت الحمامة التي طيرها حاشية الملك تنزل على رأس ضابط مغامر، لا أحد ولا حتى في الخيال كان يتوقع أن يكون على رأس مملكة سابقة انفجرت فيها ثروة نفطية هائلة.

انطلاقا من مجاز هذه الحكاية اعتبر الناس، الذين جرت العادة على تسميتهم شعباً، أن حكم القذافي قدر لا مفر منه، وأن التاريخ كثيرا ما تصنعه المصادفات العجيبة رغم تحليلنا المنطقي لأحداثه ومحاولة ترويض عشوائيته بفقه الصيرورة والأسباب الوجيهة والمنطق الأفلاطوني، وراجت في ظل هذا التسليم بالقدر الكثير من الطُرَف والنكات التي كان الليبيون يتداولونها بسرية في جلساتهم الخاصة في سياق العقيدة التي تقول أن الضحك يخفف الهموم ويؤخر الشيخوخة، لكنهم شاهدوا شيخوخة الحاكم في كوابيسهم عندما تخيلوه يقول في أحد خطاباته، وقد تساقطت أسنانه: نحتفل اليوم بالعيد التاثع والتثعين لثورة الفاتح.

في نكتة أخرى، أقل قسوة، يتخيلون أن عرافة قرأت طالع الليبيين حول مستقبل نظام الحكم الذي يؤرقهم، فقالت، وكان هذا في العيد العشرين للثورة: سيحكمكم القذافي 40 سنة. فسألوا بأمل: وبعدها؟ فأجابت بيأس: بعدها ستتعودون عليه.

لكن ما حدث أخيراً أن الحلم حين يكبر في السن تسقط أسنانه وتغزوه التجاعيد فيصبح كابوسا، بل أن الدكتاتور يصل إلى مرحلة تصبح فيها فكرة نهايته مصدر فزع لضحاياه، فبعد أن شيد القذافي ليبيا على مقاسه وعمل بمثابرة ليكون عمره من عمرها، وصل الناس ـ الذين كانوا يسمون مجازا شعبا ـ إلى السؤال المر الذي أصبح يراودهم، ماذا سيحصل لنا لو مات القذافي فجأة؟ ولا أحد كان باستطاعته الإجابة عن هذا السؤال، لكنهم الآن يتلمسون إجابته المرة أيضا، فلكل سؤال مر إجابة أمر منه. بعد أن مات القذافي مقتولا وذاب في الأثير دون قبر، يفكرون الآن أن سؤالهم القديم أجيب عنه بشكل قاس، وهم يحسون أن القذافي تدبر قبل موته لليبيا طقوس أرملة بوذية من القرون الماضية، حيث تحرق الزوجة المخلصة نفسها فوق جثمان زوجها المحروق من باب الوفاء الذي يجعل منها قديسة.

حكايات التاريخ ترصد لنا آلاف الطغاة الذين ماتوا بعد أن جهزوا ممالكهم للطقس الهندي القديم، لكن الشعوب التي لم يتحول الاستبداد فيها إلى عادة نهضت من رمادها واستطاعت أن تقتل الطاغية فعلا في الأخير، فموته الفيزيائي لا يعني شيئا إن لم تمت جيناته في العقول، حتى لا ينتهي الفلم بصورة مقربة لجنين منسي يتثاءب في المشهد الأخير فتظهر أنيابه الطويلة بعد أن قضى الخيرون على كل مصاصي الدماء الكبار، ليُشرع باب الجزء الثاني من فلم مصاص الدماء، وهذا الطفل السينمائي مازال يتثاءب في عقولنا، والأجزاء من فلم الرعب ستتوالى إذا لم نقتله.

استمر الليبيون في سرد النكات والحكايا والأساطير بعد أن مات الدكتاتور وأجيب عن سؤالهم القديم، فيُحكى، وهذه المرة في الجلسات العلنية وليست السرية، أن عجوزا ليبية سألوها عن رأيها في نهاية القذافي وحكمه المستبد، فقالت ببساطة العجائز: الله يرحمه. . كان واطي عالخير وعالشر. وللأسف هذه الإجابة صارت الحكمة التي يتداولها البعض الآن بعد أن جاء البديل ليطأ على الخير ويترك الشر يتسكع بأبهة في كل جبهة وفي كل زنقة وفي كل بيت.

أما مؤلفو الأساطير المتجهمون، والمعتقدون في وجود شبيه للقذافي، يقولون: وما قتلوه ولكن شُبه لهم، وأن ما عُرض على الشاشات ليس موت القذافي، ولكن شبيهه، وأنه مازال حياً يرزق، عاكفاً في كهف بالصحراء على تأليف الفصل الرابع من كتابه الأخضر، بعد أن طبق حواريوه المخلصون، بعد فبراير، الكثير من فصوله الثلاثة، فأصبح الشعب مسلح فعلاً، ومن تحزب خان، والأرض ليست ملكا لأحد، واللجان تتشكل في كل مكان، والتمثيل تدجيل لدرجة أن النائب الممثل لا يستطيع العودة إلى الدائرة التي انتخبته، والشعب يحكم نفسه بنفسه عن طريق الميليشيات. وبسبب ولعه طيلة فترة حكمه بتغيير الأسماء واللافتات فقط، يتضمن هذا الفصل بعض التعديلات اللغوية، فاستبدل عبارة الديمقراطية المباشرة بالديمقراطية المباغتة، واستبدل اللجان الثورية بالثوار، ومكتب الاتصال باللجان الثورية بمجلس الثوار الأعلى، والمثابة العالمية بدار الإفتاء، والأهم من ذلك، التعديل الذي يتعلق باكتشاف أن بعض الرجال يحيضون أيضا. هذه الأسطورة رائجة لكن ناقدا ليبيا متقاعدا يعتبرها لا ترقى إلى مستوى الأسطورة وهي مجرد ضرب من الواقعية السحرية التي دشنها الروائي ماركيز تتحول في ليبيا إلى نشاط شعبي عام يكتبه الليبيون وهم في طوابير الغاز والخبز.

الحكاية الأخيرة تعود بنا إلى قصة الخادم والحمامة، فبمجرد أن مات الطاغية ـ كما سماه الثوار طيلة الثورة وقبل أن يصبحوا طغاة بدورهم ـ وقُضي على أبنائه بين القتل والنزوح والسجن، فكروا في البديل، وكان الحمام هذه المرة أوراق الاقتراع التي حطت عبر الصناديق على رؤوس المرشحين، ولأن الديمقراطية أيضا لعبة لا تخلو من المصادفة، سنكتشف أن الورثة في النهاية، مثل خادم النحّاس، عاثوا خرابا وتنكيلا وفسادا في أهل المملكة، وحين تشكو الحال لأي أحد يقول: لو كان الله يريد خيرا لهذه الأرض لحطت الحمامة على رأس من يريدون خيرا لها. لكنها ليست حمامة مزاجية، تقول، إنها انتخابات حرة ونزيهة. فيعدد لك كم الفاشيات التي جاءت عن طريق انتخابات حرة ونزيهة، ثم يردف دون أن تختفي الابتسامة الصارمة عن وجهه: تتحول صناديق الاقتراع إلى صناديق ذخيرة حين تكون الديمقراطية صَبغة على الإصبع وليست صِبغة في العقل.

المولعون بالنكتة وبسجع الكهان، مازالوا يعالجون الهم بالضحك، فيقولون، يبدو أن الحاشية أطلقت حمامتين، فنزلت إحداهما على رأس عقيلة والأخرى على رأس بوسهمين، فحظينا بدولتين وحكومتين وبرلمانين ومصرفين مركزيين، ومن كل زوجين اثنين. أما منظمة الأمم المتحدة التي يصفها البعض بأنها تقيس بمكيالين، حاولت علاج الفصام الليبي السياسي المزمن، بإطلاق حمامة واحدة توافقية، لكنها مازالت تحوم فوق فوهات البنادق والمدافع والرشاشات، تبحث عن مكان آمن تحط فيه.

 

______________________________

نشر المقال على موقع ليبيا المستقبل بتاريخ: 15 مارس 2017

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى