الراي

رأي- من همس الذاكرة..

 

* كتب/ عطية صالح الأوجلي

 

في الستينيات من القرن الماضي انتشرت بين المثقفين العرب مفاهيم ومصطلحات وافدة مثل الغربة والعبث والوجود والحداثة والمعاناة..

كانت جزءًا من المشهد الثقافي وجزءًا من تأثره بالتيارات العالمية، ولكن بعضا من أدعياء الثقافة تلبسوا الحالة شكلا وموضوعاً.. فأصبحت الغرابة في الأسلوب والمظهر هدفا في حد ذاته.. فتسابقوا على إطلاق اللحى واقتناء “البايب” وارتداء “البيريه” وعلى الشرود على كراسي المقاهي لساعات وعلى إدمان التذمر والاحتجاج وربما حتى القليل من إهمال النظافة الشخصية.

 

تلقف أحد الكتاب الساخرين هذه الحالة وقرر أن يلقن هؤلاء المتطفلين درسا في الثقافة. فدعاهم إلى حضور ندوة ستقام لمناقشة نص جديد للكاتب الايرلندي الشهير “صمويل بيكيت” بعنوان “تأملات صرصار في بالوعة”.. وكان الكاتب الساخر قد أمضى أياما عدة في بيته يكتب نصا عبثيا لا معنى له يدور حول تأملات هذا الصرصار.. وأطلع عدد من أصدقائه المقربين، وهيئة تحرير المجلة التي يعمل بها على نصه العبثي..

 

وفي يوم الندوة حضرت أعداد من المثقفين إياهم واطلعوا على النص وقتلوه تحليلا أشبه بتحليلات المحللين السياسيين على القنوات الليبية.. وبعد ساعات من النقاش الساخن وتضارب الآراء حول المعاني التي يقصدها الكاتب، وحول معنى أن يكون الصرصار وحيدا في بالوعة المجاري وانعكاسات تلك الوحدة على الوعي الداخلي بالذات وهشاشة الكون واحتجاجات الشباب بأوروبا..

وبعد الانتهاء من هذه التحليلات المعمقة شكرهم الداعي إلى الندوة وأخبرهم بأن مجلته ستخصص عددا خاصا حول هذه التحليلات.. وهذا ما كان ..

 

نشر الكاتب الساخر تحليلات أدعياء الثقافة ومعها النص وكذلك اعترافه بأن هذا النص من تخيلاته وأن السيد بيكيت بريء من هذا النص براءة الذئب من دم يوسف. وعزز كلامه بشهادات الذين عاصروا تأليفه للنص.

الضجة كانت كبيرة والسخرية كانت قاسية.. وأدت في نهاية المطاف إلى اختفاء مجموعة من أدعياء الثقافة وتقلص عددهم في المقاهي.. وإلى تراجع كبير في استخدام ألفاظ مثل الغربة والعبث والوجود والحداثة والمعاناة.

 

لماذا تذكرت هذه القصة الآن ورويتها لكم…؟ لا أعلم…. ولكن ربما لها علاقة بالوعي الداخلي للذات وهشاشة العظام.. وسعر البطاطا في غات!..

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى