الرئيسيةثقافة

ملاحظات حول كتاب المنفى الذهبي*

 

بعد قراءة كتاب (المنفى الذهبي ـ بالبو في ليبيا.. أضواء وظلال) للدكتور مصطفى رجب يونس، والذي يقدم صورة تكاد أن تكون شاملة ومستفيضة لمنجزات حاكم استعماري إيطالي في بلادنا ليبيا خلال فترة تاريخية تمتد من عام 1934 إلى عام 1940،

يكون سؤالنا الأساسي هو:

لماذا لم تستطع أنظمتنا الوطنية وخاصة بعد تدفق النفط والحصول على التمويل اللازم للإعمار والتحديث ـ من تحقيق الآمال والطموحات في التنمية والتقدم؟

* كتب/ رضا بن موسى،

ولماذا لم تتمكن أنظمتنا من أن تتجاوز في مراكزها العمرانية نموذج (المدينة المزدوجة) أو (المدينة المستعمرة)، حيث حرص المستعمرون في تلك المناطق على بناء مدن جديدة، على النمط أو الطراز الأوروبي، إلى جانب المدن القديمة، وذلك للتباهي وعقد المقارنة وإثبات التفوق. وبالمقابل لم نستطع نحن تقديم نموذجا خاصا (لمدينة العدل والحرية في وطن الاستقلال) يعبر عن دخولنا العصر الجديد ومشاركتنا مع رواده صنع عالم أفضل.

هل يؤشر هذا إلى الفارق الحضاري بيننا وبين الغرب الرأسمالي -استعماريا امبرياليا.. وبالتالي إلى العجز التاريخي الطويل الذي لايزال يقيدنا، وبالتالي يعيقنا عن خلق القوى -النخب- الطلائع القادرة على إدارة عمليات التحديث والتطور، بل ووأدها وسحقها بأنظمة شمولية ـ فاشية ـ ظلامية بدلا من الاستفادة من التجربة التاريخية للإنسانية وتخطي سلبياتها في الاستبداد والانفتاح نحو التنوير والعلمنة والعلم والديمقراطية.

وبالرغم من أن المؤلف يعتمد منهج دراسة الحالة مع تنبيهه للقارئ بأنها “لا تعمينا عن الحراك الأكبر الذي تتحرك فيه الشخصية ـ الاستعمار ومثالبه”، إلا أن الدراسة للشخصية تتسع وبتفاصيل في مجالات متعددة لمنجزها الاستعماري التحديثي، ولتقدم ايتالو بالبو ـ كما جاء في مقدمة الكتاب للأستاذ أندريا بارافيللي ـ بأنه صورة لـ” الممثل النموذجي شبه المثالي للفاشية” ولكنها لا تركز كثيرا في ظلالها على طرق عمل النظام الفاشي، التي ترتكز على الشمولية الاستبدادية والعنف وعبادة نموذج القوة، حتى تكاد أن تظهر في الأضواء “صورة محسنة” لأحد أعمدة الفاشية، ومثلما حاول اليمينيون الإيطاليون تقديم صورة إيجابية لموسوليني.

وقد يكون هذا بسبب طبيعة الكتابة العلمية الموضوعية التي تضبط انحيازاتها القيمية، وتخشى الوقوع في ايدولوجية اليقين، ولكنها ـ مع ذلك، ولنكن منصفين ـ لا تتخلى كلية عن ارتباطها بالموضوعية المعرفية والأخلاقية، حيث يتبين في ثناياها ـ ولو بصورة غير كافية ـ بأنها لا تشيح النظر ـ بين الحين والآخر ـ عما أرتكبه الفاشيون من جرائم شائنة وظلم فادح تجاه سكان الأرض الأصليين، وبشهادات منصفة من قبل مؤرخين إيطاليين.

إن الفاشية لم تكن أقل شرا؛ كما يطرح الدكتور علي عبد اللطيف حميدة، عندما تقارن تجربة الاستعمار الإيطالي بتجارب استعمارية أخرى فما فعله الفرنسيون في الجزائر وما فعله البلجيكيون في الكونغو وغيرهم من المستعمرين فعله الايطاليون في ليبيا، مستهدفين بالحديد والنار احتلال أوطان شعوب وتدمير كياناتها بنهب ثرواتها وتفكيك الأبنية الاجتماعية والثقافية ومحاولة إلغاء ملامح خصوصية هوياتهم لغرض إنشاء مستعمرات على غرار بلدانهم بحداثة غاشمة.

فهل أصابنا نحن الليبيون ما أصاب مؤرخي الاستعمار من فقدان ذاكرة حيال تلك الجريمة التاريخية والتي يحاولون “الإيحاء بأن سياساتهم ـ في بلداننا ـ لم تتحول إلى حد التقوقع الحقيقي في فصل الأجناس أو إلى مستوى تلك التي أقيمت لليهود في أوروبا”.

فكيف يرون معسكرات الموت التي أقاموها.. وهل أحصوا الآلاف من الليبيين الذين أبيدوا وشردوا ونفيوا جراء تلك الأعمال والإجراءات الظالمة.

وما بالبو المحارب ضد “الحمر” في إيطاليا إلا خاتمة للحكام المستعمرين، الذين عززوا هذا النظام الفاشي في ليبيا، وكما جاء في الكتاب “إن أسلوبه في فرض الأمر، القائم على أسس استعمارية ـ راسخة متينة قبل وصوله إلى طرابلس، أتاح له الفرصة لتقديم نفسه على أنه مبتكر سلمي لهذا النظام في ليبيا”. وكان ذلك بعد أن مهدت له الأرض بقمع المقاومة المسلحة وإبادة وتشريد آلاف الليبيين، والحصول على الدعم المالي اللازم لتعويض المسافة الزمنية التي امتدت حوالي عشرين عاما، خسرتها إيطاليا في تنفيذ مشروعها الاستعماري بسبب الكفاح المسلح، ولذا فإن أفعاله هو خاتمة لأفعالهم، كما يؤكد الدكتور صلاح السوري بأنها “محاولة كبيرة وواسعة لإلغاء فكر وثقافة شعب بأكمله؛ الشعب الليبي، وكان هذا سيحدث في ظل حرية دينية باهتة مزيفة، واستقلال ذاتي وقانوني مؤسسي زائف، يمنحها بلطف الحكام المستعمرون”.

وكما يشير الكتاب فإن بالبو “لم يكن ينوي القطيعة مع الذين سبقوه في قيادة المستعمرة الليبية، وعلى رأسهم فولبي ودي بونو وبادليو”، بل سيواصل ما تم فعله وسيناور بادعاءات مخادعة في ترسيخ حالة التهدئة في ليبيا، وبالتالي فإن وجود (مارشال الجو) في ليبيا لا يحتمل التباسا شائكا كونه منفيا مبعدا، بقدر ما كانت الشروط الموضوعية تقترب إلى كونها ملائمة ذهبية لاستكمال المشروع الاستعماري، وما التحدي الذي يواجهه ليس في منافسته للزعيم – الدوتشي موسوليني بل في أنه “يعلم جيدا بأنه كان جالسا على برميل بارود محتمل، ليس بسبب السنوسية، التي تزود المنطقة بالمسلحين، والتي تعتبر بمثابة مخزن لهؤلاء المقاومين للاحتلال الإيطالي، بل بسبب مخاطر الحركات السياسية الأيديولوجية، التي كانت ترفع شعارات القومية العربية المطالبة بإنشاء كيان سياسي مستقل يجمع كل الشعوب الناطقة بالعربية، الذي كان يخشى أن تتسلل أيضا من مصر أو تونس”، وإلى القلق والمخاوف من تواصل النضال السياسي والإعلامي، في بلاد الشرق والغرب، الذي قام به المنفيون الليبيون، والذي لم يتوقف لفضح الفظائع التي يرتكبها المستعمرون تجاه السكان المحليين.

وعلى ذلك فإن (مارشال الجو) سيسعى إلى “تنفيذ برامج تستند على مشروع تجديدي جذري، وفقا لهدف إنشاء واقع استعماري يساوي، إن لم يكن متفوقا، على العديد من المستعمرات الأوروبية الأخرى الموجودة في إفريقيا”. ولكن ستؤكد برامجه واقعيا المزيد من الاستيلاء على أراضي الليبيين لصالح الموجات الإيطالية الوافدة للإحلال محلهم. وما تلك السياسات التي اتبعها بالبو للفوز بكسب صداقة الشريك من الدرجة الثانية؛ أي الليبيين الخاضعين، ليست سوى الوجه الآخر الخادع للسياسة الاستعمارية التي سعت إلى جذب اهتمام الرأي العام الدولي والعربي تجاه سياستهم الحضرية والاجتماعية، وإفشال جهود المنفيين الليبيين المناضلين لكشف حقيقة تلك السياسة، التي كانت مدموغة بالتمييز والعنصرية.

إن الكتاب ينجح في مواجهتنا ـ طوال قراءته ـ بسؤال المقارنة:

إذا كانت المدرسة الفكرية الاستعمارية تحاول إعطاء صورة خادعة عن تاريخ الاحتلال الإيطالي في ليبيا كونه استعمارا حديثا ومتقدما أكثر إحسانا وودية للتغطية على جريمتهم التاريخية..

فماهي وجهة نظرنا نحن فيما حدث؟ وكيف يكون بإمكاننا أن نصنع حاضرا ومستقبلا أفضل؟ وهل ندرك كما يشير المؤلف، في خاتمة الكتاب، عن نهاية بالبو، إلى “أن العنف يؤدي إلى عنف مأساوي آخر، فالعنف يجلب المزيد من العنف، والحرب تجلب المزيد من الحرب، ومن وجهة نظر معينة: ـ ولا يؤكد الكاتب أنها وجهة نظره ـ بالبو نفسه دفع حياته بسبب العنف”.

فهل ندفع نحن، في دوامة حربنا الدائرة والتي نعيشها في حاضرنا الآن، المزيد من الأنفس الليبية إلى الموت والنفي والإبعاد، بدلا من الإعمار والتحديث، ولكن هذه المرة بأيدي قوى محلية، كومبرادورية عميلة تابعة، وليست أقل وحشية من الفاشية الخارجية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*ندوة الجمعية الليبية للأداب والفنون (حول كتاب “المنفى الذهبي .. بالبو في ليبيا .. أضواء وظلال”) للمؤلف: د. مصطفى رجب يونس. الثلاثاء 31 –  يناير – 2023.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى