الراي

إضراب قطاع التعليم بين المؤيد والمعارض

* كتب/ يوسف أبوراوي

 

النزوع إلى الاقتصاد في العمل والتفكير وتحمل المسؤولية من خصائص الإنسان الملازمة له، فكلنا عادة نميل إلى التقوقع في منطقة راحة لا نغير فيها شيئا إلا عندما تلجئنا الظروف إلى ذلك ونجبر على التغيير إجبارا..

الحالة الليبية ليست استثناء.. الفساد المستشري على كل المستويات أصبح هو منطقة الراحة للكثير من المستفيدين… تحريك هذا الوضع لن يتم إلا عبر عملية مؤلمة وارتجاجات كثيرة يوازن فيها الجميع مواقفهم ليصلوا في النهاية إلى منطقة استقرار ولو بشكل نسبي.

 

ربما كان إضراب قطاع التعليم بشقية من هذه الأمور المقلقة والتي تستدعي مراجعة الحسابات وتغيير الثقافة السائدة.. الإضراب بالتأكيد فيه أضرار غير خافية على أحد، ولكن في المقابل بدونه لم يستمع المسؤولون إلى مطالب هذه الشريحة، هذه الشريحة أيضا فيها كثير من الفساد والتقصير، هذا الفساد والتقصير لا بد أن يعالج.. هذا النمط من الجدال والشد والجذب هو الذي يخرج كثيرا من الأفكار التي كانت غائبة أو مغيبة عنا.

التفاعل مع مثل هذا الحدث سيكون متفاوتا وسيركز كل طرف على مصلحته، يجب أن نفهم هنا أن ذلك طبيعي جدا، وأنه ليس من العيب أن يبحث الناس عن مصالحهم بدل إطلاق مثاليات عالية وكلمات رنانة نتوهم أنها ستحل المشكلة أو تطفئها لحظيا، ولكن في المقابل يجب أن نفهم أيضا أن ذلك سيقابله المطالبة بواجبات لازمة الأداء.

 

سأحاول هنا رصد بعض المتفاعلين مع الأزمة وطريقة تعاملهم معها وما يمكن أن يؤخذ ويستفاد من هذه المواقف:

الطلاب وأولياء الأمور: موقفهم غير واضح تماما، لتفاوت أهدافهم الأصلية من الدراسة، فكثيرون يرونها نشاطا زائدا وجدوا أنفسهم منخرطين فيه ويريدون إكماله، فقط للحصول على شهادة أو للتفرغ إلى مرحلة تالية كالزواج مثلا أو التفرغ للعمل، كما أن كثيرا من الطلبة يرون في الدراسة سببا للتحصيل العلمي واكتساب المهارات والتأهل لفرص عمل جيدة أو مواصلة الدراسة في مستويات أعلى، كما أن اتحادات الطلبة تسعى لفك الإضراب لقناعتهم بضرورته، كما يتم استغلالهم أحيانا من قبل الوزارة للضغط في هذا الاتجاه.

أعضاء هيئة التدريس: المطلب الرئيسي لأكثرهو زيادة الدخل والمرتب، وما أثارهم بشدة وفجر هذا الاحتجاج هو تلك الزيادات لكثير من القطاعات في الدولة من الذين يرونهم قرناء لهم، ولا يجدون سببا لهذه الزيادة ما دام الكل يتحصل على مرتبه من الخزانة العامة، بالإضافة إلى بعض المزايا الأخرى كالتأمين الطبي وغيره، ولهم في ذلك كل الحق، فيجب أن يكون لنظام المرتبات قانونا واضحا بدل هذه الفوضى التي تخلق حقدا طبقيا ولا مبررا منطقيا له أصلا، في المقابل كثير من أعضاء هيئة التدريس مهملون وغير مؤهلين وكثير منهم خارج الهيكل التنظيمي ولا يعملون، ولكن كل عاقل يقول إنه لا يجب أن يؤخذ البريء بجريرة المذنب.

الوزارة: لم نكن نسمع عنها شيئا قبل هذه الأزمة، فهي اليوم تريد استمرار الدراسة لأنها ترى في توقفها فشلا لها، وبتصاعد الأزمة تمت إقالة (استقالة) وزير التعليم وتكليف غيره بشكل مؤقت، وذلك أمر طبيعي في رأيي بغض النظر عن المصيب والمخطئ (كثيرون يقولون هنا إن الإقالة حدثت عندما أخرج الوزير قوائم ترصد مدرسين لا يقومون بعملهم ويأخذون مرتبات، هذا الأمر في نظري ربما كان أهم سبب لإقاله الوزير فكيف يسمح لكل هؤلاء باستنزاف خزينه الدولة طوال فترة توليه ولم يخرج أسماءهم إلا عندما شعر بالخطر على منصبه لكسب الرأي العام، بمعنى أنه لو لم تحصل الأزمة لما خرجت الإحصائيات!)، ولكني أتوقع أن عمل الوزارة ليس مجرد إطفاء الحرائق ورصد المخالفات، بل مهمتها الرئيسية صياغة السياسات والاستراتيجيات والخطط، ووضع الآليات الواضحة لتنفيذها وفق معايير جودة مجددة ومعايير للأداء تعطي كل عامل حقه.
.
المثاليون: يرون أن إيقاف الدراسة جريمة تحت أي مبرر وعلى من لا يعجبه هذا المرتب أن يترك العمل ويتجه لعمل آخر.
.
المشاكسون: يرون ضرورة إيقاف الدراسة حتى تستجيب الحكومة لأنها لا تفهم إلا بهذه اللغة وأنها لا تهتم برصد المشاكل إلا عند تفجّرها.

الدولة والحكومة (1969-إلى اليوم): ترى أن التعليم قطاع هامشي فهو ليس بأهمية الأمن مثلا، فلم نر مدارس تبنى منذ الثمانينات ولا برامج لتطوير التعليم وما يرصد من ميزانيات قليلة ويتم نهبه في دوائر الفساد المعروفة.. بالإضافة إلى تحويل قطاع التعليم في فترة من الفترات إلى مكب لكل من يتم الاستغناء عنه من القطاعات والوزارات الأخرى بدون أي تخطيط .

من كل ذلك يمكن أن نستنتج أن هذه المشكلة هي نتيجة تراكمات عديدة تحيط بنا كمجتمعات لم تتعود التخطيط والتنبؤ بما ينتظرها من مشاكل، بل تعتمد الحلول الجزئية والترقيعات اللحظية وحتى ما يتم إنجازه من إصلاحات يضيع في دائرة الفوضى والعشوائية.

لعل ردة الفعل حول تخفيض المرتبات التي زيدت بطريقة عشوائية تعد استجابة جيدة من الحكومة لهذه الأزمة، ولكن المطلوب هو إصلاح اقتصادي شامل يبتعد عن مزاج الغنيمة وتقاسمها ويأخذ في الاعتبار رأي المتخصصين في التخطيط والاقتصاد ورأي كل قطاع بما يخص مجال عمله، فلدينا كثير من الأفكار والمتخصصين ولكن لا يستمع لأفكارهم، بسبب البيروقراطية المتأصلة وديناصورات الفساد والافساد الممنهج.

لا يمكن أن يحدث إصلاح إلا بإصلاح شامل تتغير فيه العلاقات والعمليات والصيغ الحاكمة لكل ذلك، وبدل أن نتوقف لنلعن المدرسين، دعونا نحاول استغلال الفرصة لننظر بشكل أوسع، فربما كانت هذه فرصة لقدح شرارة عمل إصلاحي ينتشلنا مما نحن فيه، وقد قيل (لا يوجد مجتمع فقير ماديا ولكن الفقر دائما ما كان في الأفكار وطرق الإدارة والتسيير).. ولننتج خططا واضحة قابلة للتنفيذ والمتابعة لتنفيذ هذه الإصلاحات بدل الضبابية القائمة والحاكمة في كل ما نقوم به.. قد يبدو هذا الكلام كثيرا وحالما و(مش وقته)، لكن صدقني لا توجد طرق أخرى إلا الفساد والحرب والفوضى وقد جربنا كل ذلك وهو ما أوصلنا الى هنا !!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى