الرئيسيةالراي

استهلال قصصي من أمام المعدة

* كتب/ محمد سحيم،

يحكى أن أحد الزلافيت الذين يقرؤون كف الأفق وبعضاً مما يليه، كان ينجو من الجوائز ويهرب من الغنائم ويتفادى الوغمات، قال له أحد المتعجبين ذات يوم، لماذا تتفادى الهبرة الواقعة عليك من السماء؟

قال الزلفوت الخبيث: وراء كل هبرة عظم، فأينما توجد لابد وأن يردفها عظم، من يتوغل بلينٍ في هناء ورطوبة (النعمة) يتنازل عن أخطار أن يغص في عظم أو هبرة.

(….غرقان، أو غارق، آآآه، آه.. أنا أُبقبق يا احميدا أغرق وأنسحب إلى العمق ببطء، الماء المالح يقتحمني و يدخل إلى فمي ويملأ تجويف جسمي ويكتسح إلى داخل رئتي، وأشعر أنهما تحترقان وينقطع النفس في آن، أمر بما يمر به الغارق ويعانيه، أكابد زمن الدقائق الخمس التي يقضيها الإنسان عند بوابة الموت غرقاً قبل أن تنتهي معاناته، غير أني يا صديقي لا أبلغ الموت وكلما شارفت رحلة العذاب الأليم تلك على النهاية، عادت إلى مرحلة البداية وانطلقت من جديد عبر المراحل ذاتها لا ينقص منها ألم، كأني (سيزيف) ذاك الذي كلما بلغت صخرته رأس الجبل، عادت وتدحرجت إلى القاع، وعاد مرغماً يدفعها إلى أعلى الجبل مرة تلو أخرى في ضنك وكد وتعب لا نهائي، أو لعلها ما يسميها البوذيون (السمسارا) أو إعادة الميلاد والمعاناة حياة تلو أخرى….)

هذا مقتطف وجزء من حلم رأيته، كان الراوي والمتحدث خلاله، صديقا يتبوأ منصباً ويحمل رتبة شُرَطية رفيعة في مدينتي، كان الحلم عظيم التأثير على نفسي، أيقظني قبل الفجر بدقائق، فرحت إلى النافذة وأشرعتها لأتنفس وأعيد التفكير في مشاهد ومقاطع وأفكار ذلك الحلم، شربت من كأس الماء الذي انتقلت به قبالة النافذة المشرعة، وبقيت واقفاً أراقب صراعاً محتدماً ومطاردة حامية بين مجموعة عابرة ومجموعة قارة من الكلاب السائبة، راحت المجموعتان تتصارعان على منطقة رأس الشوكة، وانتهت بمطاردة القارين للعابرين وتلويث هدوء الفجر بأصوات نباح تسعة من الكلاب انقسمت بين المجموعتين.

الكلام الذي قاله ذاك الصديق في الحلم، وإن كان على لسانه، لكنها أفكاري، أو لنقل إن التشبيهات والاستعارات والأفكار ومجمل العدة اللغوية التي نطق بها الصديق في الحلم كانت لي، لماذا يقوم عقلي (اللاوعي منه) بإجراء هذا الحلم الهش، وبدل أن يستدعي مفردات وأفكار ولغة الصديق يستخدم عدتي أنا اللغوية؟

كان تأثير الحلم على نفسي هائلاً طوال اليوم، عند كل منعطف وموقف، رحت أردد وأستذكر شكوى ومعاناة ذلك الصديق، الصديق الذي لم أراه منذ ثمان سنوات أو أكثر.

بعد ذلك الحلم بأسبوع تقريباً، توقفت عند إحدى الصيدليات المجاورة لأحد أشهر مطاعم السمك في المدينة، فور أن نزلت من السيارة انتبهت إلى دخول مجموعة من سيارات (المهمين جداً) من ذوات الدفع الرباعي – معتمة الزجاج بطبيعة حال وأهمية راكبيها، دخلت إلى الصيدلية والتقطت علبة الدواء ودفعت الثمن وخرجت، وقبل أن أصل إلى سيارتي، كان المهمون النازلون من قافلة السيارات المذكورة، قد ترجلوا إلى المطعم وأغلقوا على سيارتي منفذ الخروج، انتظرت ريثما قام سائقوها بتعديل وقفاتها، الأمر الذي استغرق قرابة خمس دقائق وعندما سنحت الفرصة، انسحبت بسيارتي إلى المخرج وقبل أن أبلغه سمعت أحدهم يصرخ في إثري باسم السيارة (يا أفانتي…يا أفانتي…وقف وقف)

توقفت، كان شاباً من المرافقة الأمنية للجماعة المهمة التي دلفت إلى المطعم، جاءني وقال: يا أستاذ، الأفندي فلان يريدك.

نزلت من سيارتي بعد أن عدت بها وأوقفتها بشكل يرضي نفسي والقانون، سألت فرد الأمن، أين هو؟

قال: فوق في المطعم، تفضل.

قلت: أخبره أنني أنتظره في الأسفل.

تلكأ الشاب في تنفيذ ما طلبته منه، وأخذ الأمر منه جولتين من الأخذ والرد، مستهجناً طلبي ومعتبراً أن المقام العالي لسمو الأفندي لا ينزل إلا ليركب السيارة، فقلت له: أنا أيضاً ورغم (الأفانتي) لن أصعد لمن يطلبني، أبلغه بما قلت وإلا سأمتطيها ولن ترى إلا زجاجها الخلفي.

ما هي إلا لحظات بعد انتهاء الأخذ والرد بيني وبين فرد الأمن الذي لم يستسغ ما قلت وطلبت منه، وظل واقفاً على أمل أن أغير رأيي، لحظات وبان من خلفه، سمو الأفندي سيده، الذي نزل وجاء نحوي وسلم، كان يتبعه اثنان من الحراس، سلّم بحرارة واتجه ممسكاً بيدي صوب الأفانتي، وقال افتح الباب لأجاورك، كان الأفندي هو الصديق الذي سبق وأن رأيته في الحلم.

فتحت الباب، وجلس على الكرسي جوار السائق، بعد أن صرف حراسه الذين لم ينصرفوا بل التصقوا بمؤخرة وجنب السيارة، قال: شغل المحرك وأدر التكييف وأخبرني عن أحوالك، أين أنت وكيف هي أخبارك؟

تبادلنا الحديث مدة خمس دقائق، أخبرته عن أخباري، عن رحلتي (من-إلى) وكيف أنهيتها عند الاستغراق والانهماك في حلحلة بعض شؤون النازحين في بنغازي إبان سنوات الحرب، قال:

تركتَ هناك وتلك الحياة وتلك الفتاة وجئت لتجربة العيش داخل الطنجرة؟

نعم، هذا هو الممكن الوحيد الذي تقبلته نفسي، والنتيجة كما رسمت، رضا عن النفس وراحة ضمير بالحد الأدنى.

خلال تلك المحادثة القصيرة، ما انفكت هواتف ذلك الصديق، في إطلاق الاتصالات بشكل متكرر ودون انقطاع، حتى قام بإسكات الرنين، ثم جاءه أحد المرافقين وأشار له بيديه فعاجله بالنهر وطلب منه الانصراف بإشارة غاضبة، ثم بدأ يتحدث، أو لنقل راح يشكي بنحوٍ يشبه ما رأيته في الحلم، لكنه في هذه المرة كان يشكي بلسانه ولغته وأفكاره:

كما ترى، حصار من الناس والوظيفة، الحراس والمرافقين والموظفين وطالبي الخدمات ومقدموها، يحفون ويخفرون كل ثانية في يومي، في البيت، في المكتب، في الشارع، أهرب من كل هؤلاء دون أن أستطيع الخلاص، لا يمكن أن تمر دقيقة دون أن يقتحمها أحد هؤلاء، تعرف يا سحيم، أنا لا أريد شيئاً من هذا كله، لست سوى ضابط يرغب في خدمة وطنه وعيش حياة دون منغصات، لكنني صرت أعيش المنغصات دون حياة، هل تصدق لقد سامحت القذافي على كل ما قام به، لأني رأيت حجم ما تجريه الناس بمن يملك منصباً، وبالمناسبة، أنا لم أسامحك أنت، بل أحمل ضد انسلاخك وانسحابك أشد الأحمال وأعلى درجات العتب، هه سيارة أفانتي ومرتاح الضمير وخلال الدقائق العشر أو الربع ساعة التي جلسنا فيها هنا لم يرن هاتفك ولو مرة واحدة، إنها جنة أيها الخبيث.

أنت مدين لي ولكل من تولى منصباً بعد 2011 بقطعة من راحة البال والضمير، خطفتها لنفسك وجمعتها من حصص عشرات التعساء الذين يكابدون العيش النكد بين الطبالين والمتزلفين وطالبي الخدمات، لست حكيماً وبعيد النظر كما تحب أن يمدحك بعض من ترافقهم، أنت خبيث وأناني في هذه الناحية، تترك اللحمة الكبيرة في الطنجرة، لتعود إليها بعد أن يتصارع الآخرون على ما وضعته في القصعة.

راح على مدى نصف ساعة، يشكوا اختناقه ويلوم هناء حالي ورفاهية مجهوليتي واغترابي داخل سيارتي الأفانتي…

ثم ودعني ونزل، لم أشعر يومها إلا بقليل مما شكا منه ذلك الأفندي، ثم عدت إلى المكان ذاته بعد أسبوع ووقفت أمام الصيدلية ودخلت، كانت الصيدلية مكتظة بطالبي الدواء وحاملي الروشيتات (الوصفات الطبية) فوقفت في آخر كومة الناس، لكن رأساً من رؤوس الصيادلة تخطى كل الوجوه الواقفة أمامي ومد يده نحوي بابتسامة على أقصى ما يكون وقال:

تفضل يا أستاذي.. تفضل ماذا تريد؟

التفت نحوي باستغراب أولاً، ثم بنوعٍ من الانشراح كل الواقفين أمامي، كنت كمن يستحق أن يتجاوز حقوق كل هؤلاء في الأسبقية، أفسحوا لي وليد الصيدلاني الممدودة، لم يعترض أو يمتعض أحد، فابتسامة ويد وانحناء الصيدلي يشيران إلى أنني مهم جداً بل وأهم من كل احتياجاتهم وأوجاعهم جميعاً، لم أفهم ما يجري ولم أفهم عدم اعتراض أي أحد، حتى داهمني (اللاوعي) بفكرته وقال:

إنه تأثير الجالس جوارك في السيارة قبل أسبوع، مازال يجري على روح وعقل الصيدلاني الذي يبدو أنه راقب الجلسة.

أحسست ببعض آلام الأفندي وامتعاضه، لكني لم أتفهم ملامته، فأنا لم أقم بأي شيء إلا ممارسة حرية الاختيار في أن أكون حراً، حراً حتى مما يرون أنه جائزة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى