اجتماعيالرئيسية

مصابيح حياتنا،،

* كتب/ محمد الجمل،

عندما تضع طفلتي ذات الأعوام الثلاثة رأسها على صدري مستأنسة بدقات قلبي، لتذهب رويدا رويدا في نوم عميق، استمتع أنا باللعب بخصلات شعرها الكيرلي الجميل، تتحرك سبابتي ماسحة فروة رأسها..

كانت هذه الحركة تريحني جدا وأنا أستقبل شمس فبراير الدافئة نائما على فخذ أمي في الجهة القبلية من البيت.. تتحرك سبابة ماسحة فروة رأسي دون هدف، فقد أنهت للتو حملتها المحمومة للبحث عن القمل، تمسح بسبابتها في (اسْكَانْ) أخير..

تبدأ هذه الحملة العنيفة من البحث إذا صادف ووجدت قملة في الجدائل الملونة بالأشرطة القماشية لإحدى أخواتي.. تدرك أمي أن انتشاره سيكون كارثة كبرى، خصوصا أن تلك الجدائل تملأ بيتنا، وعملية غسلها اليومي وتمشيطها بالمشط الضيق جدا أمر غاية في الصعوبة، من الجيد أخذ الاحتياطات والعمل على تقليل فرصة حدوثها عبر إجراءات احترازية وحملات تفتيش دورية.. ربما تكون هذه هي المهمة الأسهل لأمي.. فأمي تنقع ملابس أبي البيضاء في ماء وصابون، وتفركها بيديها بالصابون السوسي والتايد، ثم تضعها في قصعة بها ماء نظيف وتعصرها بيديها، ثم تنقلها إلى حبل الغسيل الممدود في الجهة الشرقية من البيت.. يأتي الدور على ملابسنا أيضا.. معارق أبي تطبخها أمي في طنجرة مخصصة لذلك مع البوطاس والصابون.. أمي تحضر الغذاء وتجلي الأواني.. أمي في موسم التمور تشقق التمر وتنشره في الشمس ثم ترصه في لطائم سعف نشتريها من الحاج محمد.. أمي تغسل الشعير وتطفحه وتنشره في الشمس وتضعه في أكياس جاهرة للرفع للطاحونة.. أمي تغسل الصوف بعد جَزّ (الشواهي) وتحيله إلى أسلاك تصنع منها قطع فرش أو بطاطين ثقيلة تقينا برد الليالي البيض والسود وقرة العنز.. أمي لم تتوقف عن الإنجاب بحثا عن ذكور في مجتمع ذكوري لا يقبل الإناث، ويحرمها من الميراث، ويوقف دراستها مع بدء ظهور علامات بلوغها.. أمي تعجن دقيق الشعير مع حفنات من دقيق القمح وقليل من السكر والملح وبعض الخميرة، تتركها تختمر وتشعل التنور لنأكل خبزا ساخنا يشلشل.. كيف تمكنت أمي من إخراج خبز التنور؟ وكيف سَبَكَتْ البازين وقدمته لأبي ساخنا ليصيح.. خيركم ما خليتوه يبرد؟

كيف استطاعت أمي مع مهامها الكثيرة جدا إيجاد الوقت لتمتهن الخياطة، فتخيط ثيابا لنا وللجيران كذلك؟ وكيف تتمكن من استقبال الجارات صباحا ليأكلوا رز جاري بالحلبة والقديد في الدار اللي بره أمام المسدة؟.. وكيف تستطيع أن تواصل صديقاتها في مناسباتهم المختلفة رافعة في حرّاتيّة ردائها كيس شمعدان أو كيس حلوة يابسة؟.. ثم كيف تتوفر غسالة الملابس وغسالة الأواني والمكنسة الكهربائية والعجانة الكهربائية ومقلاة الزيت الكهربائية وغلاية الماء وكل كماليات الحياة لزوجاتنا وهن يشكين دائما من الحوسة، ويطلبن المساعدة فيتمتع البعض منهن بشغالة؟..

أمي ومع تقدم العمر والمرض ومع مغادرة الفراخ للعش لا تزال تطبخ بمفردها إذا لم تجد كنّة أو ابنة، وترفض أن يدير البيت شغالة.. أي تحدي صعب تضعه أمهات الأمس أمام أمهات اليوم؟.. وأي دين ثقيل يضعنه في الرقاب.. أمي متعك الله بالصحة والعافية وأدامك مصباحا ينير عتمة حياتنا..

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى