الرئيسيةفضاءات

هنات الخطاب الإصلاحي

“السياقات التاريخية وموازين القوى تحدد إلى حد كبير مصير الأفكار، وحتى الحركات…. رفيق عبدالسلام ”

يقصد رفيق عبدالسلام مؤلف كتاب الإله والمعنى في زمن الحداثة… الخطاب بين الهيمنة والتعدد والذي هو في أصله جزء من رسالة دكتوراه- كما جاء في مقدمة الكتاب.

* كتب/ هشام الشلوي،

يقصد المؤلف في هذا الفصل ما اعترى المقترح الإصلاحي الإسلامي والعربي من رؤى ناقصة وحلول غير ناجعة لما واجههم من انحطاط المسلمين تقانة وسياسة وأخلاقا، وسقوط دولهم فريسة تنهشها دول أوروبية متسلحة بحداثة معقلنة وبيروقراطية شديدة الضبط، وأسلحة حديثة وخطاب سياسي لم يألفه المسلمون من قبل، وإن كان لهم ميراث من القيم السياسية التي فرطوا فيها، وبقت حبيسة بين دِفاف الكتب.

صرف الإصلاحي المسلم تركيزه إلى ترويض الحداثة العدوانية المتسلحة بقوة الجيوش، والماسكة بزمام القوة الاقتصادية والعلمية وإدراجها في البيئة الإسلامية من خلال عنصرين اثنين؛

أولا: البحث عن مشروعية دينية وأخلاقية لاقتباس الضروري واللازم لإعادة التوازن في الجسم الإسلامي المأزوم والعليل تحت عنوان الأخذ بأسباب المدنية.

ثانيا: تدشين خط فاصل بين النظام الديني والأخلاقي وبين العلوم الحديثة والوسائل المدنية الواجب اقتباسها، كون هذه الوسائل ذات صبغة كونية وليست ملكا للأوروبيين وحدهم.

عاملان أفشلا هذه الخطة وحالا دون حدوثها، وإن كانت يمكن أن تكون رافعة لوقف سيل الانهيار الذي اجتاح عوالم الإسلام؛

الأول: التخبط السياسي الذي صبغ ولوّن حال المسلمين بعدما اجتاحت أوروبا عالمهم وهزمتهم في عقر دارهم.

الثاني: شرذمة وتفكك الكيان العثماني الجامع لعوالم الإسلام.

يلتمس المؤلف العذر للإصلاحيين المسلمين بأن موازين القوة كانت أكبر منهم ومن دول الإسلام قاطبة، وما كان في مقدروهم تغيير هذه الموازين. ورغم وصول محاولات الإصلاحي المسلم إلى طريق مسدود، إلا أنه بث روح الوعي وبواعث العزم التي مازالت حية إلى يومنا هذا.

وقبل الخوض في المسألة، لا أدري إن كنت أحسنت أم أفسدت هذا الفصل بتدخلي فيه؟ كما لا أعلم إن كانت محاولتي إضاءة هذا الفصل من الكتاب ستغضب مؤلف مؤلفه أم لا؟ ورهاني الأول والأخير أني وفرت عليه قراءة فصل طويل معقد المسارات والتركيب، محاولا أن أقدم بين يديه مرحلة من تاريخنا الثقافي والفكري تستحق الإضاءة.

المنطلق الإصلاحي

تفطن الإصلاحيون مبكرا إلى فكرة تجديد المؤسسة كمدخل للعلاج من كل الأدواء، ثم أضاف خير الدين التونسي ضرورة الحرية كأداة إنقاذ، ليدخل جمال الدين الأفغاني فكرة النهوض بمعناه الواسع المشروط بالوحدة وتعبئة الطاقات لمواجهة الأخطار المحيطة بالإسلام، وهي الفكرة ذاتها التي أحياها محمد رشيد رضا ضمن سياقات سياسية، ثم يأتي خيار محمد عبده بإصلاح التعليم والثقافة كشرط للتقدم، بعد أن يئس من السياسية.

معوقات

ينبهنا رفيق في فصل الخطاب الإصلاحي إلى أن غياب الحامل السياسي والاجتماعي هو أحد أكبر المعوقات التي واجهت الإصلاحي العربي، فلا الأنظمة السياسية سواء الدولة العثمانية قبل سقوطها الحتمي ولا مشروع الدولة العربية الذي حل بديلا عن الخلافة العثمانية تبنى أيا من الحلول الإصلاحية المقترحة، ولا المجتمعات المسلمة بتنوعها واختلافها هضمت المشروع الإصلاحي أو وضعته ضمن جدول حركتها في التاريخ.

ربما كان رشيد رضا وشكيب أرسلان هما الأكثر وعيا بهذه الحلقة المفقودة، حيث فقدا الأمل في الرهان على تنبه الحكام المسلمين خاصة في مركز السلطنة لمواجهة الخطر الغربي، على نحو ما كان يتصور الأفغاني، وأصبح لازما عندهما تكوين قوة منظمة سماها رشيد رضا بحزب الإصلاح الإسلامي يجمع بين فهم فقه الدين وحكم الشرع وسبر غور الحضارة الغربية. أما شكيب أرسلان فنفض يديه من الحكام وعلّق آماله على حركات المقاومة مثل السنوسية في برقة والخطابي في المغرب.

محمد عبده وانتكاسة الوعي التاريخي

يتهم المؤلف، محمد عبده في غير مواربة بالضلوع في انتكاسة الوعي التاريخي، في مرحلته الثانية الموصوفة اعتباطا بمرحلة النضج، وتنكب طريق أستاذه الأفغاني الذي كان يرى في المشغل السياسي العام طريقا استراتيجيا لتجديد المختزنات الرمزية والروحية لمواجهة الهجمة الغربية.

اختزل عبده مسألة الإصلاح في تجديد الأزهر وإصلاح مناهج التعليم. ويرى رفيق أن حل عبده كان هروبا من الكلفة الثقيلة للسياسية على نفسه ويأسه منها خاصة بعد فشل الثورة العرابية وما تبعها من حملات قمع بريطاني.

أوجه قصور

أسس الإصلاحيون فكرة مفادها أن حداثة حقيقية (أو مدينة بلغتهم) مؤسسة على العلم والعقل لا يمكن أن تتناقض مع إسلام سلفي أصيل.

وبزعم المؤلف ابتلع الإصلاحيون الادعاءات الكونية للخطاب الحداثي من دون غربلة، وانطلقوا من مسلمة مضمرة تدعي أن الحداثة أشبه ما تكون بمنظومة مكتملة وناجزة، يمكن صبها في الوعاء الإسلامي ومجالاته التداولية، بشرط توفر الأرضية المناسبة لحسن استقبالها، مع عدم المساس بثوابت الدين والأخلاق العامة. وهذه رؤية يغلب عليها طابع التقليد والاجترار.

وعند التحقيق في الخطاب الإصلاحي ورصد تجاربه يتضح أن الإصلاحيين كانوا ليبراليين في أثواب إسلامية، لإيمانهم بوجود عقل كوني شفاف ومحايد، ويؤمنون بالتقدم المطرد على طريقة الأنواريين الأوروبيين، وما كان يقلقهم هو سؤال الهوية؛ أي كيفية المحافظة على الدين والأخلاق بعد جلب المدنية الغربية.

وبسبب جريان مياه كثيرة في نهر الحداثة الغربية سواء أكان على صعيد التجربة التاريخية الحية أم على صعيد الفكر، وجب أخذ مسافة من مقولات الحداثة ونخل مكاسبها من عثراتها وهناتها.

الواقع

برز الوجه المرعب للحداثة مع موجات الاستعمار الغربي وقهر الشعوب، ثم حربين كونيتين، وأنظمة فاشية ونازية وشمولية شيوعية، وهذا كله شكك في مبشراتها في التقدم على نحو ما كان يحلم الآباء المؤسسون لها، الذين كانوا يتصورون أنه كلما أخذت البشرية بأسباب العلوم والعقلنة، ارتقت في مدارج التحرر، إلا أن التاريخ والتجربة الأوروبية معقل الحداثة يؤكدان أن السير نحو الأفضل ليس ضرورة، بل فُتحت أبواب التوحش والعنف المعقلن، وبالتالي لا يمكن التسليم سواء للأنواريين أو الإصلاحيين الإسلاميين بضرورة تطابق الحداثة مع الحرية والتحرر، وإنها لمسار بالغ التركيب والتعقيد، تمتزج فيه صيحات الحرية بآهات العنف والسيطرة.

النظر ونهاية المرويات الكبرى

عصرنا الراهن يبدو أكثر انشغالا بتفكيك ما أسماه الفيلسوف الفرنسي جون فرانسو ليوتار بنهاية المرويات الكبرى، أي المفاهيم الناظمة لعصر الحداثة، وتبدد التطلعات الكبرى، بعد مثول تجربة الحداثة وتاريخها أمام أعيينا بحيث يمكن نحل مصالحها من مفاسدها، بدليل أن الغربيين أنفسهم تجاوزوا عتبة الحداثة إلى ما بعدها.

هز نقد نيتشه في القرن التاسع عشر والعلوم الإنسانية بحقولها المختلفة، مفهوم العقل الكلي والجوهري على طريقة الأنواريين والإصلاحيين الإسلاميين.

فهم الإصلاحيون الإسلاميون أن ما يدركه العقل في المجالات الدنيوية يظل يقينيا كاملا وأنه قوة مطلقة مردة تتموضع خارج اللغة والثقافة وملابسات التاريخ الحي، وأنه كوني ومحايد يمكن استخدامه على أكمل وجه وتطهيره مما يتسرب إليه من أوهام وجهل.

والعقل ليس سوى فاعلية التعقل التي لا يمكن عزلها عن الأوضاع التاريخية والاجتماعية والثقافية التي تشتغل ضمنها، ومن التعسف اختزالها الفاعلية التعقلية في وجهها العملي فقط، فهناك العقلانية العملية والاقتصادية والسياسية والروحية.

التطورية

نظرة الإصلاحيين التطورية أو التقدم، والتي تعني أن مسار المجتمعات والحضارات عامة بمثابة سلم تتوالى فيه درجات الصعود من الأدنى إلى الأعلى، أي كلما تقدمت البشرية زمانا زاد حظها من المدنية والعمران، هذه النظرة لا تقل هشاشة عن نظرتهم الإطلاقية للعقل، ولذا ليس غريبا أن يقيس محمد عبده مسار الوعي الإنساني وحركة المجتمعات والحضارات عامة على منوال حياة الإنسان الذي ينتقل من الطفولة إلى اليفاعة، ومن الشباب إلى الكهولة فالشيخوخة، ورغم تبرم الإصلاحيين من لا دينية أوروبا إلا أنه لم يساورهم شك في كونها مثال التقدم المطلوب النسج على منواله للحاق وتجسير الهوة.

وخيار التمييز والفصل الذي نهجه الإصلاحيون بين المدنية بما تعنيه من صنائع ووسائل وعمران، وبين وجهها الروحي ممثلا في الأخلاق والعادات والآداب يبدو اليوم تعسفيا واعتباطيا وغير مقنع. فالإجراءات والوسائل مهما بدت حيادية وكونية تظل ضاربة في ميراث التجربة والثقافة، وعليه لا يمكن التسليم للإصلاحيين بأن وجوه التنظيم السياسي والاجتماعي والعلوم والصنائع هي ذات صبغة كونية مطلقة ومحايدة. فالوسائل والإجراءات التي تؤدي إلى تنظيم سياسي أو اجتماعي أو علمي لا تتطابق في البيئات والثقافات المختلفة.

ورغم صحة أن الكثير من الوسائل والإجراءات قابلة للكونية، إلا أن الحضارات ونظم العمران كما يذكرنا ابن خلدون هي نسيج مترابط الحلقات والمكونات، ويصعب تقسيمها إلى مجال الروحانيات والقيم من جهة أولى ومجال الماديات والوسائل من جهة أخرى، كما يقول رجال الإحيائية الإسلامية.

فليس عيبا استعارة مؤسسات وأفكار أمم وثقافات أخرى، إلا أن ذلك يقتضي الوعي بتاريخية ونسبية المنقول، وأن هذه المؤسسات والوسائل المنقولة تحمل أقدارا من مؤثرات نشأتها وتطورها، مما يستدعي إعادة تعديل وتصويب المنقول بما يستجيب مع أولويات وثقافة البيئة الجديدة.

سلطان الوسائل

تملك الوسائل والتنظيم من القوة والسلطان ما يفوق أحيانا كثيرة سلطان الأفكار والقيم وتتجاوز نطاق الإرادة الفردية والجماعية، فالحداثة ليست سوى التحول في عالم الوسائل والإجراءات من نظم إدارية وتقنية أتاحت التحكم في الوقت وتحسين الكفاءة والنجاعة وغيّرت شروط الوجود الإنساني، وبدلت نِحل العيش وأنماط القيم ومناهج التفكير.

وليس مبالغة القول إن الكثير من التحولات في عالم الأخلاق والأفكار خلال القرنين الماضيين كانت في حقيقتها بسبب التحول الذي لحق عالم الوسائل والإجراءات والنظم. لذا من الصعب التسليم بالثنائية التي أقامها الإصلاحيون بين عالم الأخلاق والروحانيات وعالم الماديات المدنية.

وفرض العلمنة والدهرنة في الفضاء الأوروبي والأطلسي وتراجع الأخلاق المسيحية الصلبة، ليس بسبب دعوة بعض المفكرين والفلاسفة إلى العلمانية أو الإلحاد، بل لأن الحداثة الغربية بإجراءاتها البيروقراطية وأدواتها ووسائلها التنظيمية خلقت أجواء عامة طاردة بطبعها للدين والروحانيات عامة.

ولا يمكن فهم تركيز الإنسان الغربي على المرويات الصغرى حول فريقه الرياضي أو عمله في المصنع أو الإدارة أو الجامعة، وإهماله للقضايا الكبرى إلا من خلال التحولات الهائلة التي طالت عالم الوسائل والإجراءات التي حكمت حياة الغربيين وغيّرت نسيج علاقاتهم الخاصة والعامة على امتداد القرون الثلاثة الأخيرة.

التماس العذر

رغم أن الإصلاحيين لم يكونوا على وعي كاف بما تحمله الحداثة من قوة تأثير بالغ بسبب الأوضاع الصاخبة التي عاشوها وكتبوا فيها التي لم تتح للكثير منهم فرصة التفكير العميق في ظاهرة الحداثة، رغم ذلك يلتمس لهم المؤلف العذر، لأن مسار الحداثة وإلى غاية طليعة القرن العشرين، وهي الحقبة التي تبلور فيها الخطاب الإصلاحي يمكن وصفها بأنها حقبة المسار المظفّر والناجح للحداثة الغربية، بما يجعل من العسير على الإصلاحيين إدراك مخاطرها وهناتها.

كما أن مبدأ الضرورة كان دافع الإصلاحي المسلم للمناداة باقتباس هذه الحداثة والتبشير بفضائلها العامة، ولم يكونوا مخطئين ولا واهمين من ناحية النداء بالاقتباس لمعالجة أسقام الجسم الإسلامي العليل، بيد أن مسوغاتهم العامة التي أسسوا عليها عملية الاقتباس والتلقي تبدو اليوم واهية وضعيفة، كما أن مبشراتهم المستقبلية التي تحولت في زمننا الراهن حاضرا محسوسا لم تعد مقنعة أو تستهوي أحدا.

اتساع الهوة

نهل عالم الإسلام الواسع الكثير من عباب الحداثة أو المدنية التي نادى بها الإصلاحيون أخذا بأساليب العلوم والتقنيات ونظام العمارة وهندسة الطرق، وحتى في المأكل والملبس والمنكح وفي كل شيء، بيد أن الهوة بيننا وبين هذه الأمم تزداد اتساعا والمسافة تباعدا، فكلما خلنا أننا اقتربنا منها وجدناها ازدادت بعدا عنا.

فمجتمعاتنا اليوم لا ترضي أحد، يأنفها التقليديون لأنها ما عادت أصيلة أو تقليدية كما يرغبون، ويكرهها الحداثيون لأنها ما صارت حداثية زاهية على نحو ما يحلمون، ولك أن تقول إننا اليوم إزاء اجتماع تقليدي مأزوم وحداثة مشوهة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى