الرئيسيةالراي

رأي- صورة من صور النقد المؤدلج

* كتب/ د. الهادي بوحمرة

من خلال مراجعة اللقاءات والمناقشات التي تمت مع عدد من المنظمات الحقوقية المحلية والدولية، والنظر في التقارير التي صدرت منها؛ تعقيبا على مسودات اللجان النوعية، ولجان العمل، ولجنة التوافقات بالهيئة التأسيسية، يتبين لنا هذه المنظمات تعتمد في مواقفها من البناء الحقوقي في الدساتير ومختلف التشريعات على منهج واضح مؤسس على معايير قاطعة، وذات مصدر أحادي، وهو منهج لا يقوم على البناء على المشترك بقدر ما يقوم على استبعاد الاعتبارات الدينية والاجتماعية والتاريخية الخاصة بالمجتمع.

فوفق هذا المنهج، السمو يجب أن يكون للاتفاقات والمعاهدات الدولية للحقوق والحريات، وعقيدة حقوق الإنسان مردها إلى الشرعية الدولية، لا إلى الدين. وكلما كان دور الدين محدودا في البناء الحقوقي الدستوري، كان ذلك إيجابيا، وكلما حلت حقوق الإنسان الطبيعية والمكتسبة محل حقوق الانسان المستمدة من الوحي الإلهي، وتم استبعاد مرجعية القيم والالتزامات الدينية واستبدالها بالقيم المستمدة من الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، كان ذلك أدنى للمطلوب، وأجدر بالقبول والدعم.

فالأمر لا يتعلق فقط بجوهر الحقوق، وفاعلياتها، وآليات إنفاذها، وإلزام الدولة بها، ذلك لأنه يتجاوز ذلك ليقترن بمنهج البناء الحقوقي، ومصادره المادية. فالطريق الأمثل لدى هؤلاء هو أن تكون المرجعية التي يُرّدُ لها البناء الحقوقي هي الإعلان العالمي لحقوق الانسان، والعهدين الدوليين، وغيرها من الاتفاقيات الدولية بشأن الحقوق والحريات دون غيرها، والتي يجب أن تسمو على مختلف الأنظمة الدينية والتقليدية للمجتمع، وتعلو على الدستور نفسه. فالحق لا يختلف النظر إليه باختلاف جوهره فقط بل -أيضا- باختلاف مصدره، إذ أن السؤال المحوري الذي يؤسس عليه الموقف هو: هل مصدر الحقوق هو الوحي الإلهي أم الصكوك الدولية؟

ومن هنا؛ فإن الاعتقاد بأن الله هو مصدر هذه الحقوق، أو الاستناد في ذلك إلى الموروث الفقهي للمجتمع من شأنه أن يغير التقييم لأي دستور بشكل جذري؛ ما يعني أن المسألة لا تتعلق بتكريس حقوق معينة، بقدر ما يتعلق بسمو أيديولوجية دولية ومرجعية وعقيدة حقوقية صارمة في شكلها ومضمونها بديلة عن العقيدة الدينية. ودليل ذلك امتداد الأمر ليشمل الصياغة الدستورية للحق، إذ إن تبني صياغات ذات مصدر ديني هو أمر غير مرحب به من قبل هذه المنظمات؛ حتى ولو كان المحتوى واحدا. فمن غير المقبول مثلا أن تعبر عن شخصية العقوبة بقوله تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)، ولا عن حرية المعتقد بقوله تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)، لأن في ذلك خروجا عن محاكاة النموذج الدولي المحدد سلفا حتى في صياغاته.

الأمر يذهب بعيدا لدرجة أن دسترة إي حق يجد أساسه في المصدر الديني دون أن يكون له أساس في الصكوك الدولية هو أمر غير مقبول، ومن ذلك ما تمت مواجهة مشروع الدستور الليبي به من قبل المنظمات الدولية وبعض من النخبة الحقوقية الليبية بشأن دسترة الزكاة. فالزكاة حق الفقراء والمساكين في مال الأغنياء، يحررهم من الحاجة، وهي نظام للتكافل المجتمعي يهدف لإدراك ضرورات الحياة، ويُعد من ضمانات وآليات تفعيل حق الفرد في المآكل، والمشرب، والملبس، والمسكن، وما يلزم لصحته، وهي سبيل من سبل تحقيق الحياة الكريمة؛ إلا أنه نتيجة لأن مصدرها ديني، وأنها لا تجد لها أساسا في الشرعة الدولية؛ فإن الدستور الذي ينص عليها ليس محل ترحيب من قبل المجتمع الدولي والنخب التي تسير على منهجه الصارم والقاطع في هذا الشأن. ونرى أنه لو كانت معايير التقييم مختلفة، وكان منها اعتبار المآل، وفاعلية الحق دون الوقوف فقط عند المصدر؛ لكان الموقف من دسترة الزكاة مختلفا، ولتبين بوضوح الفارق بين الزكاة وغيرها من العبادات، ذلك لأن الزكاة قائمة -في نفس الوقت- على فلسفة الواجب والتكليف، وعلى فلسفة حق المحتاجين، وأنها مثال للجمع بين الإنسان الكائن المكلف والإنسان صاحب حقوق.

الأغرب من الاعتراض على دسترة الزكاة الاعتراض على دسترة نظام الوقف. فمع أن ذلك يُعد دعما للتأطير الدستوري للمجتمع المدني؛ إلا أنه -في المقابل- يُعد تجاوزا للنموذج الدولي للمنظمات غير الربحية أو غير الحكومية. فالوقف هو إلزام اختياري للذات، ووجه من وجوه الإحسان وخدمة المجتمع، وتنظيم يخدم الضرورات الاجتماعية والاقتصادية؛ كالمأكل، والمشرب، والملبس، والتعليم، والصحة. كما أنه يمثل بناء لمجال مشترك بين المجتمع والدولة، ومساهمة في إعادة التوازن بينهما، وسبيلا من سبل الرفع من مستوى مشاركة الأفراد في الشأن العام، وهو ما يبرر الحماية الدستورية له، إلا أن هذه الحماية الدستورية للوقف كانت من أوجه النقد لمشروع الدستور الليبي من قبل نخبة حقوقية لا ترى الحقوق وآليات إنفاذها؛ إلا من زاوية الصكوك الدولية، والمعايير المحددة حصرا وقطعا فيها، والتي تعتمد منهجا لا يقبل الزيادة أو النقصان.

ونرى أن كل ذلك يؤكد أن النقد المؤدلج الذي ينطلق من رؤية دينية محددة على نحو صارم، يقابله نقد مؤدلج آخر مضاد له، وقائم على موقف مسبق رافض لكل ما هو ديني، وعلى غض النظر عن المضامين والمآلات، وعن اختلاف واقع المجتمعات.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* عضو الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى