الرئيسيةفضاءات

حفتر.. تاريخ حافل بالانقلابات. مكلل بالهزائم

 

الناس-

قد تلخص الكلمات البسيطة أعلاه السيرة العسكرية الطويلة لخليفة بلقاسم حفتر، الضابط السابق بالجيش الليبي، وقائده إلى أسوأ هزيمة في تاريخه في ثمانينيات القرن الماضي..

 

كان أول ظهور لحفتر على خارطة الأحداث في ليبيا حين شارك (بدور ثانوي) في انقلاب عسكري عام 1969م استولى الجيش به على مقاليد الأمور في البلاد وأطاح بدولة الاستقلال الأولى.

 

في نهاية السبعينيات من القرن الماضي غزا القذافي دولة تشاد الجارة الجنوبية، وحدث أن كلف آمر المنطقة العسكرية طبرق قائدا لجيشه واسمه “خليفة حفتر”.

أجاد حفتر في الفشل، وتمكن من تسجيل هزائم مدوية، كان آخرها في وادي الدوم  1987م، حين قامر بقواته في معركة خاسرة في تلك الحرب البائسة، وحين أيقن بالهزيمة سلم نفسه للقوات التشادية، وأمسى أسيرا لدى أنجامينا، منتظرا أن يفعل القذافي المستحيل لإنقاذه. لكن القذافي تخلى عن فتاه، وأنكر بتاتا أي صلة له به. فأحس القائد المهزوم بالغدر، وتلفّت كسيرا يبحث عمن يرد له كرامته المفقودة وشرفه العسكري المهدور.

 

في أنجامينا، دخلت الـسي آي إيه على الخط، وانتشلت القائد المهزوم من الأسر، فانضم للمعارضة الليبية في الخارج، وانخرط في خططها للإطاحة بالقذافي، وسجل معها المحاولة الانقلابية الثانية في تاريخه. وفشل الانقلاب.

 

انتقل حفتر بعد ذلك إلى منفاه الاختياري في الولايات المتحدة الأمريكية، ومكث فيها أزيد من عشرين عاما، دون أن يكون له حراك ظاهر إلا من خلال الجبهة الليبية لإنقاذ ليبيا، المعارضة لحكم القذافي، والساعية لإسقاط نظامه، إلا أن نشاطها كان محدودا، ولم يؤثر بشكل فاعل على الأرض، لكن اختراقا حصل في صفوفها، وأشارت أصابع الاتهام حينها إلى القائد المهزوم مجددا، ويبدو أن رجل الانقلابات قد انقلب على المعارضة هذه المرة، وصار عينا للقذافي عليهم، مقابل ثمن بخس دراهم معدودة، وشقة جيدة التشطيب في القاهرة المصرية، لم ينكر حفتر أمرها.

 

منعطف آخر في حياة “أبي صدام”، حين اندلعت الانتفاضة الشعبية في ليبيا عام 2011 وقمعها القذافي بقسوة، فتحولت إلى ثورة عارمة ومواجهات دامية، واستيقظ هاجس الانتقام لدى القائد المهزوم، ليستعيد كرامته المفقودة، فانقلب على القذافي مرة أخرى، والتحق بصفوف الثوار، ومنح نفسه ترقية استثنائية، فظهر علينا برتبة لواء، بعد أن كان “عقيدا” في آخر ظهور عسكري له قبل عقدين ونيف، في وادي الدوم.

 

نجحت الثورة الليبية، وأطاحت بنظام القذافي، وبدأت البلاد تتعافى بوتيرة بطيئة وتنتكس وتعود لتنهض وهكذا.. في فترة انتقالية ما كان أصعبها، وحين كان الصراع السياسي على أشده بين المتنافسين تحت قبة البرلمان مطلع 2014، أعلن “أبوصدام” على قناة العربية السعودية عن انقلاب عسكري، يجمد الإعلان الدستوري، ويسلم فيه السلطة لنفسه! الأمر الذي صار مثارا للسخرية، فالحقيقة أن أحدا لم يكن معه إلا الكاميرا، وعلق رئيس الوزراء الليبي وقتها بأنه “انقلاب تلفزيوني” لم يتجاوز حدود الشاشة التي ظهر عليها.

 

هرب حفتر بعد أن صدر أمر بالقبض عليه، ثم ظهر في المنطقة الشرقية من البلاد، وأطلق “عملية الكرامة”!! في وقت كانت فيه البلاد تعاني، وبنغازي أكثر..

تعلق كثير من أهل بنغازي بقشة القائد المنقذ، وعلقوا الآمال عليه لفرض حالة الأمن، حتى وهو يعلن على الشاشات أنه سيكون مع مصالح دول أجنبية تدعمه ولو على حساب مصلحة ليبيا! متخذا من الرئيس المصري “عبدالفتاح السيسي” مثلا أعلى!!..

 

بعد ستة أشهر من إطلاق حفتر لعملية الكرامة في بنغازي دون تقدم يذكر، صار شبح هزيمة وادي الدوم يلوح في الأفق مجددا، وجاءه المدد، بعد أن دخل تنظيم داعش المتشدد على خط المواجهات، وتحديدا في شهر نوفمبر 2014م.

 

كانت زراعة داعش من قبل دوائر مخابراتية داعمة لحفتر خدمة العمر، وصار يتلقى الدعم الخارجي بكل صنوفه ومن غير دولة، وتمكن بعد أن دمر بنغازي القديمة من السيطرة على المدينة، ثم سرّح عناصر داعش بعد أن انتهت مهمتهم، حيث فتح لهم ممرات آمنة باتجاه الجنوب الليبي الذي لازال يعاني من ويلاتهم حتى الآن. فيما اكتظت مكبات شارع الزيت ببنغازي بالجثث وقيدت ضد مجهول، وجرت التصفيات الميدانية على مرأى ومسمع من العالمين.. أوصلت ملفات بعض ضباطه إلى محكمة الجنايات الدولية.. لكنهم لم يصلوا هناك وإنما ترقوا في المناصب وعلقت لهم النياشين.

 

في 2019 بدأت ليبيا تتعافى مجددا، بوتيرة بطيئة ومتعثرة، لكنها كانت تسير، وانخرطت أدوات حفتر متمثلة في برلمان وحكومة تأتمران بأمره، ولا تتعدى سلطاتهما التوقيع على ما يرد إليهما منه، (انخرطتا) في عملية سياسية هدفها المعلن تحقيق توافق وطني، ولمّ شمل الليبيين مجددا بعد سنوات من الانقسام، وفي أبريل 2019 عاد “أبوصدام” إلى هوايته، وأعلن عن انقلابه السادس في تاريخه محطما كل الأرقام القياسية قبله..

 

كانت بعثة الأمم المتحدة أعلنت موعد الرابع عشر من أبريل 2019 موعدا لعقد ملتقى جامع تلتقي فيه الأطراف المتنازعة على طاولة الحوار في غدامس الليبية على حدود الجزائر، وسبق هذا الملتقى لقاءات عديدة، حاولت فيها البعثة ضم “حفتر” إلى الوفاق الوطني الليبي، كان آخرها في أبوظبي، والذي حصلت فيه تفاهمات، منح فيها حفتر وعودا تضعه على رأس المؤسسة العسكرية- وفق ما سرّب لاحقا.

 

لكن..

وقبل عشرة أيام من الموعد المعلن عنه، وحين كان الأمين العام للأمم المتحدة “غوتيرش” يحط بالعاصمة طرابلس في زيارة هدفها دعم مساعي بعثته في عقد “الملتقى الوطني الجامع”، ظهر حفتر على وسائل الإعلام معلنا ساعة الصفر لإطلاق عملية “الفتح المبين” العسكرية لتحرير العاصمة من الإرهاب! في الوقت الذي كانت ميليشيات متواطئة معه، تهاجم تخوم طرابلس، ضاربا بجهود الأمم المتحدة عرض الحائط..

 

حقق الانقلاب تقدما سريعا، وسوقت قنوات الدول الداعمة له أن حفتر على وشك السيطرة على طرابلس، ونقلت لأتباعه صورا بجوار معالم معروفة على الحدود الإدارية للعاصمة، وأعلن فائز السراج بصفته القائد الأعلى للجيش الليبي النفير العاجل، وعلى أسوار العاصمة انكسر الانقلاب.

فجر الجمعة الخامس من أبريل، كانت ميليشيات مسلحة منخرطة في الانقلاب قد سلمت نفسها للسلطات الشرعية بكامل عدتها وعتادها، بعد أن حوصرت، وأدركت أن العملية الانقلابية قد فشلت.

سيدفع حفتر الذي يجيد الهزيمة كما لا يجيد شيئا آخر، بكامل أوراقه في معركته الأخيرة، وسيكلل -رغم أنف داعميه- بهزيمة أخيرة يختم بها سجله العسكري الخالي من نصر، ستطارد القوات المسلحة الليبية المدافعة عن الشرعية مدرعاته الحديثة من واد إلى واد، وسيبحث عن مخرج يحفظ به ماء الوجوه الصفيقة التي دعمته وتسعى الآن للوساطة لانتشاله من حمم بركان الغضب، ومحاولة جمع شتات وهمه المتبدد على أسوار طرابلس..

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى