الرئيسيةالراي

رأي- فصل من قصة البحث عن دستور

* كتب/ الهادي بوحمرة

بعد أخذ ورد، وتجاوز لكثير من الصعاب، تحددت معالم الطريق، ورُسمت الخارطة بإحكام، وحددت البداية والنهاية، وتألفت الهيئة التأسيسية بالاقتراع العام الحر السري المباشر. وبعد عملٍ متواصلٍ، وجهد مضنٍ، ومشاورات واسعة في أغلب المدن، ومع مختلف المكونات، وفي ظروف شاقة، أُقر المشروع بنصابٍ يزيد على الثلثين، وبأغلبية على كل منطقة انتخابية على حدة، وموزعة على كل الدوائر الانتخابية دون استثناء.

وعوض إنفاذ الاستفتاء، اختارت نخبة البلاد النكوص، ورجعت من الطريق التي جاءت منها، فبدل الاندفاع في عملية توجيه الناس نحو ممارسة حقهم في الاستفتاء بالرفض أو القبول، وتبصيرهم بمحتوى المشروع، ومساعدتهم في بيان مزاياه وعيوبه، والمناظرة حولها، انحرفت إلى نقاش مسائل تجاوزها الزمن، وعادت بهم إلى مسائل كان من الواجب أن تقتل بحثا قبل تصميم العملية الدستورية، لا أن تُطرح للنقاش بعد انجاز المشروع؛ ومن ذلك مسألة انتخاب الهيئة، أو تعيينها، والبدء بالعملية الدستورية، أو وجوب أن تُسبق بمقدمات؛ كالعدالة الانتقالية، والمصالحة الوطنية، وحل للمليشيات، وتوحيد للمؤسسات، ومدى مناسبة الوقت لإنجاز مراحل المسار الدستوري.

فبعد أن كان هؤلاء يصرون على الملكية الوطنية للمسار الدستوري، ويعتبرونه شأن كل مواطن، ويعلون من مرتبة المشاركة الشعبية، والمبادئ الديمقراطية، تحولوا عن مواقفهم إلى تصورات تأخذ في الاعتبار إرادة المسلحين، وأصحاب النفوذ، وتتجاهل عموم المواطنين، وتراعي إرادة من يملكون الواقع، وتُعرض عن الإرادة الشعبية، وفتحوا بذلك الطريق أمام بدائل تعرضها البعثة، ويتبعها السياسيون. وهي بدائل حلت محل مسارٍ بدأ من الشعب بصندوق الانتخاب، ويفترض أن ينتهي عنده بصندوق الاستفتاء، وساقوا الحجج والتبريرات؛ لدعم مسارات يقودها المجتمع الدولي؛ وفق مصالحه، وبلجان تختارها البعثة الأممية. وأصبح البحث جاريا من البعثة ولجانها عن إرادة أمراء الحرب والمتنفذين في البلاد، بدل إرادة الشعب، والتي تخلى عنها النخب والحكماء والأعيان والسياسيون لمصلحة مقترحات لمراحل تمهيدية يصوغها متنفذو الخارج بيد من يختارهم ويجلسهم على طاولة الحوار من الداخل. وهو أمر يعكس -في حد ذاته- عمق جذور المشكلة لديهم، ومقدار اعوجاج التفكير عندهم، ويدلل على أن الأوضاع في البلاد لا يمكن أن تستقيم في وقت قريب.

هؤلاء النخب والسياسيون هم أنفسهم الذين كانوا منظرين للسيادة الوطنية، وللتأسيس الديمقراطي، ولحق الشعوب في تقرير مصيرها، ولحق المواطن، وللخطاب المدني.

كان هذا الزخم المضاد لمشروع الدستور؛ لأسباب متعددة داخلية وخارجية، منها أنه لا يستجيب لرؤية البعض، سواءٌ من هم في السلطة المؤقتة المنتخبة، أو الواقعية، أو من الداعمين لهم، وقد نتج عنه الشروع في تنفيذ بدائل عُدل بها عن العملية الدستورية، والتي كانت قبل الدخول في متاهة هذه البدائل واضحة المعالم، فمعها بدأت البلاد في الدخول في تعرجات طمست البداية، وحادت بنا عن النهاية، وباعدت بيننا وبين وثيقة حاكمة دائمة مصدرها الشعب، وتم نهج سبيل تعاقبت فيه المراحل التمهيدية وتوالت المجالس الرئاسية وحكومات المحاصصة الانتقالية. فعوض أن تمارس البعثة مهامها في التوجيه والإرشاد والدعم لإكمال المسار الدستوري، وجهت البلاد نحو حوارات سياسية لا تنتج إلا وثائق دستورية مؤقتة متنازع فيها، ما أدى إلى تعميق انقسام مؤسساتها، وتعدد شرعياتها، وتقريبها من الخيار بين الحرب والهدنة والفوضى ودوام الفشل والانفصال أكثر من أي وقت مضى، وبدل أن تعطي الأولوية للعملية الدستورية، وضعت في المقدمة محاولات التوافق بين من تتعارض مصالحهم في التوافق، وهم أمراء الحرب، ومن يمسكون بزمام السلطات الانتقالية، والدول المتدخلة في البلاد، والتي من أولويتها سلطة مؤقتة تتعامل معها لتسيير مصالحها وتثبيت وجودها، وهكذا حلت -على نحو تدريجي- الإرادة الخارجية محل الإرادة الوطنية، وانساق وراءها النخب والسياسيون، وأصبحت العملية تعتمد -بشكل أساسي- على الأجنبي.

ومن أجل إفساد مسار الانتقال، ومنع الاستفتاء، وصف مشروع الدستور بأنه غير توافقي، وهو الذي نال موافقة أكثر من ثلثي أعضاء الهيئة المنتخبين، وبرروا نعتهم بالقول بأن هناك من يعترض على المشروع من أعضاء الهيئة، وكأن وجود عدد من المعترضين على عمل المجالس والهيئات التأسيسية أمر شاذ، وأن الإجماع هو الأصل الذي لا يمكن البناء على غيره، وهم يدركون أن الإجماع يعني أن يكون الجميع على نفس الرأي، وأن يُعطى لكل عضو حق الفيتو، ما يجعله مستحيل الإدراك في مواضيع دستورية؛ كشكل الدولة، ونظام الحكم، ومصدر التشريع، والبناء الحقوقي فيها.

وبناء على هذا القول، ألبسوا المشروع ثوب الخلاف بدل ثوب الاتفاق، وقدموا آراء من شذ من الأعضاء، وأخفوا خلفهم رأي الأغلبية المعززة، والتي بلغت ثلاثة وأربعين صوتا من عدد حضور بلغ الأربعة والأربعين، ودفعوا بناء على ذلك بضرورة المزيد من التوافق، وكأنهم يقرون بأن نسبة الثلثين هي بمثابة توافق، لكنه توافق لا يكفي، ولا نظن أن من يطالب من الداخل بالإجماع، أو بتوافق يزيد على النصاب المحدد في الإعلان الدستوري يدرك أن ذلك له عواقب وخيمة، وأنه إما أنه يُخرج الدستور ومشروعه من دائرة الممكن، وإما أنه ينتهي إلى دستور يؤسس لدولة مشلولة تتنازعها مكوناتها، وتنقسم فيها السلطة الواحدة إلى سلطات، وتهدم فيها قواعد المساواة وتكافؤ الفرص، ولا يمكن أن تقود تنمية وازدهار، إذ إن اشتراط الإجماع، أو حتى التوافق الذي يشبه الإجماع قد يفضي إلى اتفاق؛ كاتفاق دايتون الذي انتهى إلى دولة معطلة من ثلاث رؤوس، أو إلى اتفاق؛ كاتفاق الطائف القائم على المحاصصة بين طوائف محددة، والذي انتهي إلى دولة مشلولة زادت المجتمع انقساما على انقساماته، أو كاتفاق السودان الذي انتهى بالدولة إلى دولتين. كما أنه قد يكون من متطلبات المزيد من التوافق -في الوقت الراهن- دستور بأربع لغات رسمية، تكون جميعها لغات للدولة على قدم المساواة، أو دستور ينص على نسب تقسيم عائدات الثروات الطبيعية بين أقاليمها الثلاث بالتساوي، دون نظر للتباين بينها في الكثافة السكانية، أو يبني دولة بثلاث عواصم سياسية، لا يستقر فيها البرلمان، ولا الحكومة في مكان، أو يمهد لمناطق حكم ذاتي، أو يؤسس لتقسيم الوزارات ورئاسات الهيئات والبعثات الدبلوماسية بين مختلف الجهات، وهي محاصصة سوف تتدرج في النزول من الأقاليم إلى المدن، ثم إلى القبائل والعائلات.

فالقول بالذهاب بالتوافق إلى أبعد من التوافق التي وصلت إليه الهيئة، يعني إما دولة بالصورة التي سبقت، وإما بقاء البلاد على ما هي عليه من مؤقت إلى مؤقت.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*عضو الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى