الرئيسيةالراي

رأي- إشكالية العرب السياسية

* كتب/ هشام الشلوي،

على مدار عقود حلل منظرون سياسيون واجتماعيون أزمة الأمة العربية السياسية، مع ربط هذا التنظير والتحليل بالإسلام، كون العرب لم يعرفهم التاريخ كأمة سياسية إلا بعد اعتناقهم الإسلام والطيران به إلى أمم أخرى، تارة بالسيف وأخرى بالسلوك، أو قوة الانبهار بالسطوة، وهي التي يسمونها في عصرنا الحالي “القوة الناعمة”.

يطرح المنظرون والمحللون سؤالا وجيها، وهو لماذا لم تعتنق هذه الأمة العربية الانتقال السلس للسلطة بسهولة كما اعتنقت الإسلام من عدة قرون؟ حيث لم تمض بضعة عقود حتى كانت غالبية العرب موحدة، تاركة الوثنية كجزء من تاريخها العقدي والثقافي والاجتماعي.

مرت عدة عقود بعد الحرب العالمية الثانية، والعرب مصرون على الشمولية كفكر سياسي وكسلوك اجتماعي، رغم موجة الديمقراطية التي اجتاحت أوروبا الغربية والولايات المتحدة، ثم لحقت بها أوروبا الشرقية بعد انهيار جدار برلين.

تجربتان فقط لم تكتملا، إحداهما سلم فيها سوار الذهب السلطة، على أمل أن تأتي قيادة بنكهة شعبية، وهذا لم يحدث، والأخرى تجربة مصر التي مرت بعام واحد من الديمقراطية ثم عادت إلى سيرتها الأولى.

الموقف الرافض للانتقال السلمي للسلطة دشنه معاوية بن أبي سفيان، لنشهد بعد ذلك على تاريخ طويل من الدم لنهوض الدول وسقوطها، ولنرى كيف قتل الأخ أخاه والوالد ابنه.

هذا الموقف الرافض للديمقراطية قد لا يمكن ربطه بالموقف العقدي أو الأيديولوجي، فالليبراليون العرب انتكسوا عما يؤمنون به من مبادئ ديمقراطية، نكاية في خصومهم الإسلاميين، ولم يكن اليساريون أو الشيوعيون أو البعثيون أو القوميون أوفر حظا من غيرهم.

مازال قطاع واسع من المنتسبين للإسلام يناقشون جدوى الديمقراطية، وحتى أولئك الذين يؤمنون بها ليست لديهم المناعة الكافية ضد الشمولية.

لا أستطيع الجزم بأن هناك حتمية تاريخية توحي بأن العرب لا يمكن لهم أن يتحولوا إلى بنى فكرية سياسية ديمقراطية، أو لهم تلك القدرة على الاجتماع السياسي دون إشهار السيف.

أظن ظن اليقين بأن الدين ليس له دور في هذه الانتكاسة التاريخية، وإلا لماذا تحولت دول أخرى مسلمة إلى الديمقراطية أو شبه الديمقراطية كماليزيا أو إندونسيا أو تركيا، مخلفة وراءها إرثا طويلا من الهمجية والعسكرة.

صحيح أن تيارات عريضة استخدمت الدين كدعاية سوداء ضد الديمقراطية، لكن بنى الدين الأساسية وقواعده العامة لا تقول بذلك، وسيرة أول أربعة حكام وطريقة اختيارهم لا تبرهن على هذه الدعاية السوداء، وإن كان للأسف ثلاثة منهم قتلوا رغم اختيارهم الديمقراطي.

استفاض بارعون كمحمد مختار الشنقيطي في تحليل صلب الأزمة، الذي اختار عدة أسباب، كتغول الإرث الساساني على الاجتماع الإسلامي، وضعف التجربة العربية السابقة على الرسالة المحمدية، وجعل الاجتماع ووحدة الكلمة والصف كقيمة عليا تسمو على ما عداها من قيم سياسية أخرى، كحرية الاختيار وتأقيت مدة الحكم والمحاسبة والمسؤولية أمام الأمة.

إلا أن ذلك في ظني لم يكن كافيا للمس مكمن المعضلة العربية التي مازالت مستمرة حتى اللحظة الفارقة، رغم أن ثورات عام 2011 وما بعده فتحت مجالات أرحب للتقدم نحو الحكم الرشيد، إلا أن الانتكاسة كانت سريعة، ليس فقط بسبب الثورات المضادة وعمليات الإجهاض التي قادتها العربية السعودية والإمارات بالمال، ودول أخرى بالتفكير والصناعة، وإنما أيضا برغبات شعبية جامحة للعودة إلى المربع الأول والسيرة الأولى، ورفض الدخول في تجربة جديدة قد تكلف ثمنا كبيرا، إلا أنها شبه مضمونة النجاح في الانتقال الديمقراطي والحكم الرشيد.

الذي رعى الثورة المضادة ليس فقط مال السعودية والإمارات وعقول استراتيجية صانعة لهذه الثورات المضادة، وإنما أيضا رفض الشعوب لمسألة تخيل الديمقراطية والدخول إلى عوالمها.

ثمة يقين بأن عقولنا الجمعية العربية ترفض الوقوف على العتبة الأولى للنادي الديمقراطي واجتياح عوالمه.

لم يقل علماء الاجتماع أن أوروبا الغربية والولايات المتحدة دخلت هذا النادي لأن هناك جبرية تاريخية تحتم ذلك، وإنما كان الحكم الرشيد حلا وسطا لفض هذا الدمار العالمي.

وهذا ما يخيفني من مسألة الحتميات التاريخية أو القول بأن العقل العربي في عمومه مستنكر للديمقراطية ومحرم لها، بسبب ميله إلى تفويض حكمه وإدارة مقدراته إلى آخرين، سواء أكانوا من العسكر أو من طبقة رجال الدين.

كما أثبت التاريخ الحديث فشل إمكانية نفض الدين ورفضه وإقصائه في زوايا ضيقة من الحياة كشرط أساس للانتقال السلمي، فهناك تجارب إسلامية غير عربية نجحت وما زالت مستمرة في النجاح، كما أن حركات إسلامية معاصرة كانت سباقة في الإيمان بالديمقراطية.

سؤال الحتمية التاريخية والجبرية يحتاج إلى نقاش مستفيض، لكنه على الأقل سيظل ملحا في الوقت الراهن من عصور ظلامنا اليائسة، فالشتاء مازال قادما.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى