الرئيسيةفي الذاكرة

قصتي مع أبو خليل/ ح 1

 

جرت أحداث هذه القصة في عام 1980، كنت آنذاك طالبا بالدراسات العليا بجامعة ولاية كاليفورنيا بمدينة سان دياجو.

كنت أحاول الحصول على عمل في مجال التدريس، فأرسلت سيرتي الذاتية إلى الكليات المجاورة. وذات يوم دق جرس هاتف البيت فإذا بالمتحدث أحد المسئولين بقسم الكمبيوتر بكلية إسكنديدو (Escondido). …. وهي بلدة صغيرة تبعد عن مديتنا حوالي ثلاثة أرباع الساعة، وبعد جمل التعارف التقليدية جرى الحديث الآتي:

– السيد الأوجلي، وصلتني سيرتك الذاتية واطلعت عليها وأود ان أعلم إذا كنت قادرا وراغبا في تدريس مادة البرمجة فورتران 4

قلت له وقلبي يكاد يطير من الفرح ..

– نعم… بكل تأكيد …

– حسنا… الكورس هو مدخل للمادة وسيكون غالبا لطلبة السيمستر الأول والثاني ..

– ممتاز …..

جرى الحديث بيننا لدقائق حول المنهج وإن كنت أقترح كتابا محددا، وسألته عن الكمبيوتر الذي يستعملونه فقال لي إنه  HP3000

واتفقنا على موعد لزيارة الكلية والمعمل وإنهاء الإجراءات الخاصة بتوفير الكتاب للطلبة. وهذا ما كان.

* كتب/ عطية الأوجلي،

سعدت جدا بتجربتي الأولى في تدريس الطلبة الذين كانوا صغارا في السن، ومتعاونين ووديين للغاية. استرعى انتباهي أن من بينهم شخصين يحملان أسماء عربية… علمت فيما بعد أنهما أخ وأخت، وأن اصولهم فلسطينية من الضفة الغربية، وأن أباهم يعمل في قطاع الزراعة. لفت الطالبان انتباهي لجديتهما ولأخلاقهما الحميدة، التي تعكس تربية حسنة وجهدا مميزا من العائلة.

وذات يوم حدثني الابن عن رغبة أبيه في أن أقوم بزيارتهم في بيت العائلة وأنه راغب في التعرف علي، وقد أسعده وجود شاب عربي يقوم بالتدريس في هذه الكلية.

شكرته واقترحت عليه أن تكون بعد نهاية الفصل الدراسي.. وهذا ما كان.

وفي أثناء عطلة مابين الفصلين توجهت لزيارة العائلة الفلسطينية، ولرؤية السيد إبراهيم (أبو خليل) الذي كان يعمل في إدارة مزرعة كبيرة الحجم لا تبعد كثيرا عن البلدة، رحب بي أبوخليل وأخذني في جولة في سيارة تشبه اللاندروفر، حيث تجولنا في المزرعة ذات المساحة الشاسعة، والتي بها العشرات من العمال المكسيكيين. لاحظت أن السيد أبوخليل يتحدث معهم الإسبانية بطلاقة. وكان المشهد يبدو وكأنه اقتطع من أحد الأفلام السينمائية.. أبوخليل بطوله الفارع وجسده الممشوق يرتدي قبعة كاوبوي، ويقف عند هذه المجموعة من العمال أو تلك يتحدث معهم ويوجههم بطريقة جادة وصارمة، ولكنها لا تخلو من الاحترام .

رجعنا إلى البيت، وبعد العشاء دار بيننا حديث طويل حرصت فيه على أن أستمع إلى قصته التي رواها لي قائلا….

” … أنا من عائلة فلاحين، ومن قرية صغيرة في الضفة الغربية، عملت بالجيش الأردني كرئيس عرفاء حتى هزيمة 67 التي عاصرت كل تفاصيلها المؤلمة.. انهار الجيش المحدود في عدده وعتاده، وارتبك قادته أمام زحف القوات الإسرائيلية وسطوة طيرانها. وعندما اتضحت صورة الهزيمة المريرة وأن العدو قد تمكن من احتلال كامل الضفة والقدس كان ذلك يعني أمرا واحد بالنسبة لي، أن الضفة قد ضاعت للأبد، أو على الأقل لعشرات السنين، فما أعرفه عن طبيعة إسرائيل وتركيبتها وجغرافيتها وما أعرفه عن طبيعة الأنظمة العربية جعلني أدرك أن الضفة قد ضاعت منا.. قررت وسط المرارة واليأس آنذاك أن أخلع البزة العسكرية وأن أتجه إلى قريتي وأعمل بفلاحة الأرض.. وهذا ما كان.

وذات يوم.. زارني في بيتي ليلا.. ثلاثة من الشبان الذي تعمدوا ان لا يراهم أحد قادمين إلى البيت.. وقالوا لي: يا أبا خليل نحن نقصدك في عمل وطني جليل… نحن قررنا أن ننشئ خلية للمقاومة المسلحة وقمنا بتجميع السلاح وتخزينه في أماكن آمنة ولا تنقصنا الإرادة ولا العزيمة.. ولكن نريد من يقوم بتدريبنا على السلاح، ونحن أتينا إليك طامعين في عونك ومساعدتك”.

صمت أبوخليل قليلا.. ثم استطرد قائلا …

” … انتابتني مشاعر متناقضة تلك الليلة.. فهؤلاء شباب من حقهم أن يدافعوا بل من واجبهم.. ولكن الهزيمة كانت قد زلزلت كياني ولم أرد أن أنساق أمام دعوات العاطفة، بل أن أحكم المنطق القاسي.. انتهى بي الأمر إلى أن أوافق على تدريبيهم بشرط واحد واضح وصريح… قلت لهم اللحظة التي انتهي فيها من تدريبيكم لا أعرفكم ولا تعرفوني، ولم أراكم ولم تروني… أنا رب أسرة ومسؤول عن أطفال ليس لهم بعد الله سواي… فهل توافقون على شرطي هذا.. ردوا بحماس وإصرار نعم نوافق وتعاهدنا على ذلك… وسرنا نختلس الأوقات لنلتقي بعيدا عن الأعين لأدربهم.. منحتهم كل ما أعرفه وتمنيت لهم التوفيق وودعتهم”.

” … وذات ليلة.. قرب الفجر وأنا نائم في سريري، سمعت جلبة وصراخا، فقمت من نومي لأشاهد جنديا إسرائيليا يصوب بندقيته إلى رأسي.. هجم الجنود علي وكبلوني وجروني وسط شتائم وضرب وصراخ إلى السيارة واقتادوني إلى السجن وغرف التحقيق. وأنا في الطريق إلى السجن.. تيقنت بيني وبين نفسي أن السبب هو أن المجموعة الصغيرة التي قمت بتدريبها قد انكشف أمرها وأن أحدهم تحت وطأة التعذيب قد اعترف علي “….

” .. كنت أعرف النظام الإسرائيلي جيدا.. هو أن المتهم سيمر بفترة من التعذيب المتواصل التي بعدها سيقدم لمحاكمة عسكرية ليتلقى أحكاما بالسجن لسنين طوال.. ولكن كنت أعرف أن المحكمة لتفعل ذلك تحتاج أما إلى اعتراف من المتهم أو إلى شهادة من الشهود… بالنسبة للاعتراف فقد عزمت بيني وبين نفسي أن أتحمل كل أصناف العذاب ولا أعترف؛ لأن الاعتراف معناه ضياع أسرتي وأطفالي الصغار، وبقائي في السجن لمدة لا تقل عن عشرين عاما، لأخرج محطما وبائسا أعايش كتلة من الأمراض والأسقام”..

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى