الرئيسيةعيون

رسائل على هامش “زلّة” نجلاء المنقوش

العربي الجديد-

الغضب الشعبي الليبي الذي فجّره لقاء وزيرة الخارجية الليبية المقالة، نجلاء المنقوش، مع وزير خارجية الكيان الصهيوني، إيلي كوهين في روما، ردّ فعل طبيعي، بل وكان متوقّعا من الشعب الذي قاد ثورة 17 فبراير (2011)، وهو ردّ الفعل الفطري عند أغلب الشعوب العربية من الخليج إلى المحيط، عندما تمتلك الحرّية للتعبير عن رأيها.

وما لفت الانتباه إليه هو حالة الثورة التي ما زالت ليبيا تعيشها رغم كل الفوضى والحروب والصراعات والانقسامات والمشكلات التي يتخبّط فيها البلد منذ نهاية دكتاتورية معمّر القذافي. ولولا سلطة الخوف التي تحكُم بها أنظمة عربية كثيرة مُطبّعة شعوبها لشهدنا ردّ الفعل نفسه من الشعوب التي فُرض عليها التطبيع قسرا وليس خيارا، من البحرين شرقا حتى المغرب غربا. فثورات الشعوب العربية، عكس ما يَعتقد كثيرون أنها كانت بتحريكٍ من أميركا وحلفائها الإسلاميين في المنطقة، رفعت، كلها، شعارات مناهضة للتطبيع، والثورات المضادّة هي التي تسعى اليوم إلى تشويهها، بينما قادة أنظمة هذه الثورات المضادّة هم الذين يقودون التطبيع بكل أشكاله ويدعمونه ويحمونه.

وبعيدا عن مشهد المظاهرات العفوية التي خرجت في مدنٍ ليبيةٍ عديدة للتنديد بخطوة الوزيرة المُقالة، وهو المشهد نفسه الذي شهدناه في عز الثورة المصرية المَوْءودَة، عندما احتج آلاف المتظاهرين أمام مبنى سفارة الكيان الصهيوني في القاهرة، وطالبوا بطرد السفير الإسرائيلي من بلدهم، فإن ما جرى ويجري في ليبيا، على خلفية انتفاضة الشعب الليبي ضد التطبيع، يبعث عدّة رسائل إلى المطبّعين في المنطقة العربية. أولاها أنه لا ثقة في الوعود الإسرائيلية، وكان أبسط وعود الإسرائيليين للمنقوش ومن أوحى لها بلقائهم، هو الحفاظ على سرّية لقائها معهم. وفي الوقت الذي حصل ارتباكٌ عند المسؤولين الليبيين، وتبادل اتهاماتٍ بين المنقوش ورئيسها عبد الحمد الدبيبة الذي نفى أنه كان على علم بالاجتماع، فيما ادّعت هي أن كل شيء تم بالتنسيق معه، خرج الجانب الإسرائيلي ليكشف أن اللقاء جاء بتنسيق مع المسؤولين الليبيين، فكل ما كان يهمّ صقور حكومة اليمين الإسرائيلي المتطرّف هو تحقيق مكاسب سياسية تخدم مصالحهم الشخصية، ولذلك سارعوا إلى الكشف عن اللقاء لاستغلاله في علاقاتهم العامة، بغرض تسجيل انتصارات داخلية تضمن لهم البقاء في السلطة، ولو على حساب حلفائها المطبّعين الذين سلّموهم أسرارهم ورقابهم!

تفضح الرسالة الثانية فِرية أن كسب ودّ واشنطن يمر حتما عبر تل أبيب، وهذا ما اعتقدته المنقوش، ومن أوحى لها بهذا اللقاء/ الزلّة، وقبلها سعى إليه الحاكم العسكري في شرق ليبيا خليفة حفتر؛ فكل أطراف الصراع في ليبيا تسعى إلى خطب ود واشنطن، لترجيح الكفّة لمصلحتها، وتعتقد واهمةً أن طريق تل أبيب هي الأقرب للوصول إلى واشنطن، وهذه معادلة تقليدية عند كل المطبّعين. وعلى الرغم من النكسات وخيبات الأمل التي مني بها من سبقوهم، فإن الطريق نفسها ما زالت تغوي كل الراغبين في كسب ودّ الإدارة الأميركية ورضاها، ولو على حساب فقدان ثقة شعوبهم التي نادرا ما يُحسَب لها حساب، حتى تثور ضد من يخونها ويستهين بمشاعرها.

الرسالة الثالثة أن الغضب الشعبي الذي فجّرته هذه القضية أبطل مفعول كل مساعي التطبيع بين ليبيا وإسرائيل. وكما كان معروفا، كانت عمليات جسّ النبض بين طرابلس وتل أبيب تجري منذ فترة بعيدة حتى في عهد الدكتاتور الليبي المُطاح، معمر القذافي، وتواصلت بعد الثورة، سواء من خلال الاتصالات السرّية التي سربتها الصحافة العبرية مع خليفة حفتر منذ عام 2021، أو الزيارة الرسمية التي قام بها وزير العمل في حكومة الدبيبة إلى فلسطين، علي العابد، في فبراير الماضي، بتنسيق مع السلطات الإسرائيلية، تحت غطاء زيارة القدس ولقاء مسؤولي السلطة الفلسطينية. هذه اللقاءات، سواء التي ظلت سرّية أو التي أُعلن عنها أو سُرّبت أخبار حولها، هي التي جعلت مراقبين كثيرين يعتقدون أن ليبيا باتت أقرب إلى الالتحاق بقطار التطبيع، لكن الغضب الشعبي الليبي الذي فجّره لقاء المنقوش أفسد كل الخطط التي كانت تُحاك في الخفاء، وهو ما سيجعل التطبيع بين ليبيا وإسرائيل، في ظل الوضع الحالي في ليبيا، مستبعدا إن لم يكن مستحيلا.

الرسالة الرابعة أن الشعوب العربية ضد التطبيع، لأن المزاج الشعبي العربي العام هكذا، وهذا المزاج هو الذي تمثله الأغلبية الصامتة. أما التطبيع الذي تم، خصوصا بالنسبة للدول البعيدة جغرافيا عن الكيان الصهيوني، إنما هو مفروضٌ بالقوة على شعوب تلك الدول، ولو أتيحت لها فرصة التظاهر ضدّه لخرجت المسيرات بالآلاف تندّد به، ولو استفتيت في رأيها لكان قرارها واحدا، هو الرفض القاطع لكل تقارب مع كيان محتلٍّ وعنصري.

تفيد الرسالة الخامسة بأن القضية الفلسطينية ما زالت القضية الأولى القادرة على تحريك الشعوب العربية من الخليج إلى المحيط، وهذا ما عبّرت عنه مسيرات الغضب في المدن الليبية في الشرق والغرب، مندّدة بالتطبيع مع إسرائيل. وهذه أقوى رسالة بعث بها الشعب الليبي الذي مزّقته حروب الإخوة الأعداء منذ أكثر من عقد، وفي لحظة غضبه العفوي وحّدته القضية الفلسطينية.

تلخص الرسالة السادسة، وليست الأخيرة، كل الرسائل السابقة، لأنها تحمل في طيّاتها تحذيرا وردعا إلى الحكومات والأنظمة الساعية إلى التطبيع، فما جرى في ليبيا سيجعلهم يفكّرون مليا في ردّة فعل شعوبهم على كل خطوة يخطونها للتقارب مع إسرائيل. وأكثر من ذلك، ما حصل سيضرّ بالجهود الأميركية لتعزيز التطبيع بين إسرائيل ودول عربية أخرى، وسيجعل مهمتها أكثر صعوبة، وهذه وحدها أبلغ رسالة تتركها لنا المنقوش قبل اختفائها.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى