الرئيسيةالرايثقافة

رأي- مسلسل غسق.. ملحمة تجديد الانتصار

* كتب/ عبدالله الكبير،

مع طول أمد الصراع السياسي والاجتماعي المثقل بالخلاف الأيديولوجي والتناقض الجهوي، تكون المقاربة الدرامية لفصل من فصول هذا الصراع مغامرة محفوفة بمخاطر يغلب عليها الشك وسوء الظن.

لذا كان متوقعا أن يثير مسلسل تلفزيوني عن عملية البنيان المرصوص ضد تنظيم داعش الكثير من ردود الفعل المعترضة على إنتاجه وعرضه لأسباب مختلفة تتأسس على الموقف السياسي أو الأيديولوجي، خاصة وأن عرض المسلسل يقع في لحظة ليست مغايرة أو بعيدة عن اللحظة التي يعالجها المسلسل، إذ ماتزال أحداث ملحمة البنيان المرصوص ضد تنظيم داعش حاضرة بقوة في الذاكرة الليبية، يطل شهداؤها مثل كواكب لامعة تزين سماء تاريخ قريب. ومازال التنظيم وبقية التنظيمات المتطرفة تشكل تهديدا رغم ضعفها في المرحلة الراهنة.

مسلسل “غسق” الذي يروي صفحة من كتاب ملحمة “البنيان المرصوص” تعرّض لعاصفة من النقد والاعتراض قبل عرضه، إذ فور إطلاق اعلاناته الدعائية شحذ المعترضون سكاكينهم وأشهروا سيوفهم وشرعوا في التحشيد لخوض معركة وقْف المسلسل عن العرض، لم ينتظروا عرضه ومشاهدته حتى يتبينوا إن كان ثمة ما يستدعي الاعتراض، ومن دون أن يعقلوا تعذر الاعتراض على عمل لم يعرض.

أسباب الاعتراض متعددة بعضها تخص الخشية من تحوير أو تزوير وقائع وأحداث المعارك، أو عدم قدرة المسلسل على إبراز حجم التضحيات المبذولة للقضاء على التنظيم واستئصاله من مدينة سرت، وبعضها كان مدفوعا بأسباب أيديولوجية؛ لأن المسلسل يروي سيرة صعود وتحطم تنظيم إجرامي يرفع شعارات إسلامية، ونقده وإبراز منهجه الإجرامي والإرهابي وارتباطاته بجهات استخباراتية دولية، سيضع جماعات دينية تنتشر في المجتمع داخل دوائر الشك، مادامت تسعى للتغلغل في المجال العام لفرض رؤيتها المتشددة. ومن دون شك فإن هذه الجماعات التي تزعم الانتماء لنهج السلف تدرك قوة تأثير الإيحاء على المشاهد من خلال لغة الخطاب والملابس والشعارات، لأنها قاسم مشترك بين كل الفصائل والتيارات المنضوية تحت الخط الإسلامي السلفي، كما أن الحدود الفاصلة بين هذه الفصائل غير واضحة تماما، فأنصار الشريعة اندمجوا مع داعش في لحظات.

بعض المعترضين تساءلوا عن الانتماء السياسي لمنتج العمل ومخرجه وكاتب السيناريو، وهذا الاعتراض لا يحمل أي وجاهة ومن العبث مناقشته. فهل بحث أحد عن الانتماء السياسي للراحل مصطفى العقاد مخرج فلم “الرسالة” وفلم “عمر المختار”؟.. هل كان ماركسيا أم ليبراليا أم قوميا أم بعثيا؟ وهل حال انتماؤه دون إخراجه لفلمين من أهم ما أنتجته السينما العربية خلال القرن الماضي؟ هل يوجه الانتماء السياسي أو الديني لروائي أو فنان تشكيلي أو كاتب مسرحي مطالعتنا لإنتاجه؟ أم أن الصحيح هو مطالعة مايكتبه وينشره ثم الحكم على العمل بالقبول أو الرفض، بالإعجاب أو النفور، بصرف النظر عن عقيدة الكاتب أو ميوله السياسية. فقد نُقبل بشغف على روايات لكتاب لا يشاطروننا نفس العقيدة، وننفر من كتابات لكتاب من نفس ملتنا.

من غير المعقول مهاجمة عمل فني أو حتى تعريضه للنقد قبل عرضه ومشاهدته أو مطالعته. هل يمكن الحكم على رواية أو قصة قبل قراءتها؟ هل يستقيم نقد فلم أو مسلسل أو مسرحية أو أي عمل فني قبل مشاهدته؟ لذا فالحكم المتسرع على المسلسل بعد مشاهدة بضع لقطات دعائية مستلة من سياقها هو قطعا حكم مبتسر وغير عادل لأنه لايتأسس على رؤية شاملة للعمل.

فالصواب هو التأني والانتظار وعدم التسرع في النقد وإصدار الأحكام حتى عرض المسلسل، ويتعين على من يرغب في تحليل المسلسل ونقده أن يمتلك الأدوات والشروط اللازمة للعملية النقدية، وأن لا ينسى أنه عمل فني محمل برسالة أو عدة رسائل، وليس عملا توثيقيا ينشد تسجيل أحداث تاريخية معاصرة كما وقعت تماما.

علينا أولا أن نسجل ونؤكد جملة من الحقائق قبل متابعة حلقات المسلسل. الدراما محاكاة للواقع وليست نقلا له. يرى ارسطو في كتاب الشعر “أن التاريخ يكتب الأحداث كما وقعت ولكن الدراما تكتب الاحداث كما كان ينبغي أن تقع”. فالنقل التصويري المحايد والدقيق هو مهمة الصحفي ومخرج الأفلام الوثائقية وليس صانع الدراما، ومن شروط الدراما استخدام عنصري التشويق والإثارة لشد المتلقي ودفعه إلى المتابعة حتى النهاية، فبدون التشويق والإثارة قد يشعر المشاهد بالملل فينصرف عن متابعة العمل، لذلك يعمد كتاب السيناريو والمخرجين إلى إضافة شخصيات وأحداث متخيلة على هامش المتن الأصلي للدراما لإحداث الإثارة والتشويق، من دون أن تؤثر هذه الإضافات على الهيكل الرئيسي للحدث.

ثمة شرط أساسي في الدراما التاريخية، وهو عدم تحريف أو تزوير الوقائع التاريخية على جهة الزمن والتاريخ والجغرافيا، وأعتقد أن صناع مسلسل غسق قد التزموا بهذا الشرط. وينبغي التأكيد على أن الدراما ليست مصدرا من مصادر التأريخ، ومن ثم فالباحث أو المؤرخ لا يعتمدها ضمن مصادره في البحث التأريخي.

توثيق الأحداث الكبرى في تاريخنا دراميا أمر بالغ الأهمية، لأن الدراما من أهم أدوات المعرفة الثقافية، وهي أكثر متعة من الكتب لأنها تجمع بين كل الفنون، اللوحة والنص والمسرح والموسيقى، في قالب واحد. وبالتالي فهي أقدر على مخاطبة العقل والحواس، وتتجاوز في تأثيرها كافة الفنون الأخرى، فالتأثير الذي يحدثه مسلسل واحد أو فلم ربما لا تحدثه قراءة عشرة كتب، كما أن مطالعة الكتب بحاجة إلى صبر ومجهود فكري لا تشترطهما مشاهدة الأعمال الدرامية، لذلك نحن بحاجة إلى أكثر من مسلسل وفلم لتوثيق الوقائع الكبرى في تاريخنا، قبل أن تتسرب من ثقوب الذاكرة ويطويها النسيان.

في منتصف التسعينات الماضية حدثني مثقف عراقي عن ازدحام المساجد بالمصلين في العراق عند عرض مسلسل عمر بن عبدالعزيز، وكيف بكى والده وقد تداعت لذاكرته أحداث ثورة العشرين بالعراق وهو يتابع مشهد إعدام شيخ الشهداء عمر المختار في فلم أسد الصحراء.

مسلسل “غسق” ككل الأعمال الدرامية التاريخية يتكئ على حدث تاريخي، ويقدم رؤيته الخاصة له عبر صياغته في قالب فني درامي يحفظ الحدث الأصلي، ولا يحوره أو يعدله، وإنما يتحرك دراميا على حدوده ليمزج بين الحقيقي والمتخيل، ليقدم عملا فنيا متكامل الأركان، يخدم الرسالة التي يسعى صناعه إلى بثها عبر حلقات المسلسل.

بعد اكتمال عرض الحلقات العشر من المسلسل يمكن الكتابة عنه نقدا وتحليلا للوقوف على مواطن الإبداع في الصورة، وقوة أداء الممثلين لأدوارهم، ومستوي الحوار، والأهم من ذلك كله صورة عناصر التنظيم وقادته ومدى سيطرة الأيديولوجيا الظلامية على مسلكهم في إرهاب الناس، وكذلك الثغرات والهنات، إن وجدت، وأحسب أن صناعه سيتابعون مجمل الآراء حوله، للاستفادة من أي ملاحظات بناءة قد ترد في كتابات المشاهدين والناقدين له في أعمال أخرى قادمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى