الراي

رأي- رسالة لم تصل..

 

* كتب/ عاطف الأطرش

 

أزيز الرصاص في الجوار… والسماء تمطر بغزارة مع ريح مسمومة بالبارود… أختبئ خلف شجرة بعد هروبي من مخبئي الذي انهار بفعل قذيفة عمياء هدمت السقف علينا جميعا… قتل من قتل… وهرب من هرب… وصرت شريداً وحيداً في هذا الوادي الوعر… أختبئ خلف صخرة تارة… وأحتضن شجيرة تارة أخرى… يسود الهدوء من حولي… أنتهز الفرصة لأكتب رسالة لحبيبتي أطمئنها أني سأرجع إليها… أخرج قلماً جافاً… وورقة بيضاء مطوية… وأبدأ الكتابة:
حبيبتي…
أهديك أجمل التحايا… أكتب إليك بأصابع مرتعشة من البرد… هكذا كنت أقول لرفاقي هنا… أني ارتعش برداً… ولكنني حقيقة أرتعد خوفاً… لازلت صغيراً على الموت في حرب لم أفهمها بعد…
لم أفهم بعد هذه الحياة حتى أستوعب فكرة الموت… هل تذكرين وعدنا بأن نحيا معاً ونموت معاً… أخشى يا حبيبتي أن أدفن وحيداً في قبر مجهول… أو تذوب جثتي في نصب تذكاري لجندي تافه ومجهول بلا قضية!!
حبيبتي.. أحاول أن أنجو بنفسي من هذا الجحيم الذي يبدو أنه لن ينتهي قريباً… كل لحظة هنا هي عيد ميلاد جديد لي!!
أتوقف عن الكتابة لبرهة وأسترق السمع… لعل عدوا ما يحاول اقتناصي كغنيمة… أطمئن ألا أحد هنا وأرجع لكتابتي…
حبيبتي تذكرين ضيق حالي وفقري… أبشرك أن الضابط المسؤول عني سيكافئني ببعض قطع من الأثاث تم تخريدها من معسكر للعدو… قال أنه سيهديني ثلاثة كراسي وطاولة صغيرة وثلاجة… تصوري كم ستفرح أمي حين أرجع إليها بكل ذلك… حبيبتي إني مجهد من هذه الحرب… أرغب كثيراً بالعودة… لكني خائف من رصاصة طائشة تثقب ظهري فيقال عني أنه مات هارباً ذلك الجبان الخائن…
تصوري يا حبيبتي… لم أعد أفهم فيمن أقاتل… الجميع يتكلم بنفس اللغة وبنفس اللهجة… بل ويهلل بنفس التكبيرات… لم أفهم لم نقتل بعضنا البعض… صحيح أننا نحتفظ ببعض الأسرى لاكتشف أنهم من نفس طينتنا… لم أفهم لماذا؟!
حبيبتي… أريدك أن تعلمي أني اشتقت لمشاكستك في طريق عودتك من العمل… أتذكر نظراتك وأنت تحدقين لتلك البندقية على ظهري وأنا أحادثك وجهاً لوجه… تقولين لي أنت رجل بها أو بدونها… لكن هنا يا حبيبتي على أرض المعركة… أنا لست رجلاً بدونها… لا أساوي شيئاً تصوري؟
صوت الرعد يطغى على المكان… كان الصوت شبيها بصوت القذائف المتفجرة… ولا تدري أين مستقرها… أعاود للكتابة…
حبيبتي… أشكو إليك ألما في معدتي… لا أدري هل بسبب ما اتناوله من وجبات رديئة هنا أم شوقاً لفطائرك التي تبعثينها لي خلسة… لازلت أتذكر طعم تلك الفطيرة المحلاة بالمربى والسكر… كم أشتهي واحدة الآن مع فنجان القهوة الذي تعده أمي!!
ينقطع حبر القلم… فأقوم بجره أسفل حذائي ليعاود الكتابة مرة أخرى… ألتفت يمينا ويساراً… لعل نجدة ما تؤنس وحدتي… وأعود أكتب لحبيبتي…
حبيبتي قد يطول غيابي هنا… لذا أوصيك بأن تعتني بأخي الصغير… فهو يعاني من مشكلة ما في مدرسته… أعتقد أنها تتعلق بمادة الحساب… لا يفرق بين الضرب والجمع… أريد منك أن تساعديه قليلاً… أنا أثق في أن ذلك يسعدك جداً!!
أزيز طائرات حربية تقصف مواقع قريبة من مكمني يليها صوت انفجارات عنيفة… أتصبب عرقاً محاولاً الحفاظ على تركيزي…
أكتب إليك يا حبيبتي وأنا على أمل أن أعود عريساً إليك… سنكتفي بولد أو بنت واحدة… لا أريد إنجاب الكثير لهذا العالم البائس… يكفينا هذا البؤس الذي نعيشه… سنربيه معاً… سنعلمه أنه لا قضية حقيقية تستحق الموت لأجلها…
عندما أعود يا حبيبتي… سأخبر الجميع بأننا كم كنا جبناء وحمقى… أن الحرب الحقيقية هي أننا كيف نحيا… وليس كيف نموت…
سأخبر أمي بأنني ندمت على يوم مولدي… سأخبر جيراني بأني سألعنهم كلهم بينما يباركون لي عودتي… لا شيء يستحق هذه المعاناة التي أعيشها هذه اللحظة!!
صوت أزيز رصاصة خاطفة… ترتعش يداي ويسقط قلمي على الأرض… يحل الظلام الحالك في عيني… وقطرات الدم القاني تصبغ رسالتي التي لم تصل…

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى