الرئيسيةالراي

رأي- الملازم

* كتب/ محمد سحيم،

كلما حاولت أن أستقل رحلة صوب المستقبل، توقفت بي عند محطة الملازم. نعم إنه الملازم نفسه الذي تبادر إلى ذهنك حين قرأتَ الصفة دون اسم.

هذا البدوي المسكين الممصوص، ضيق الأفق وبسيط التفكير والإدراك، صاحب الأصابع المتشققة من آثار تراب سرت وصهد سبها، ناشف الريق، ديكي الصوت والصيحة، عظمي البنية، الذي تبرز من رقبته تفاحة آدمين وليس آدم واحد، يبتسم فلا تعرف إن كانت ابتسامته لأجل ود أو أنها في سبيل الاستدراج كي يغرس خنجراً في صدرك ويهرب بالناقة وحملها، ويفعل كما تعود آباؤه وأجداده الذين عاشوا على سف التراب وقطع الطريق..

هذا الملازم الذي لم يجد تصفيقاً يدغدغ الشيطان القابع في جمجمته من أبناء المدينة التي كانت تستقبل في اليوم آلاف الذوايح من باديتي الغرب والشرق، بل ومن كل مكان في الجوار البعيد والقريب، كان في نظر المدينة مثله مثل أي صاحب صرة، ترميه عربة (الكارو) في الفندق البلدي، وينطلق من هناك لاهثاً في سبيل عيشه وكسب رزقه، كانت المدينة تستقبلهم وتعلو بفضل سواعدهم وأعمالهم، فقد كان في المدينة آلاف العمال الذين كانوا يملؤون المشاغل والحقول والأسواق وورش البناء والعمل، فقد كان (بوكاط زيتي بو عصا طقطاقة) يرى في سوق جريدها وسوق الظلام والفندق وحالة التعايش القائمة بين سكانها العرب والأوروبيين واليهود ومن مختلف الأعراق والنحل، كان يرى في هذا التكوين، حجراً لبناء أمة على أحدث وأجود طراز.

لكن الملازم النحيف، شائط الريق لم يكن يرى ولا يحلم على ذات الكيف، فقد كانت بدلته العسكرية بساطاً سحرياً يحلم أن يطير به من قاع قرية (جهنم) إلى سدة الحكم حيث يمكن له أن يصرخ دون أن يضحك أحد دباسيس بنغازي من صياحه الديكي ودون أن يذنبه أحد، كما فعل ضابط (الغفر) في معسكر قاريونس، عندما وضعه في السجن لأنه كان يصرخ حين كل وجبة، ويشتكي من صغر حجم اللحم في مطعم المعسكر (الميز) وكان يهددهم بإيصال الأمر إلى سيده إدريس، لكن ضابط الغفر كان من النوع الذي لا يطيق أي صراخ خصوصاً وهو زوج اثنتين من النساء، فوضعه في السجن وحين سأله (الآمر) صباح اليوم التالي، قال هذا هو الثعلب الذي يعوي كل يوم لأجل قضية اللحم الصغير، كان الملازم المجعك يريد فرصة ليشفي غليله من مدينة متنمرة وشعب لا ينفك يعيره بسحنته الناشفة وسرافته الذاوية وخياله الأصفر وصراخه المضجر، كانت قضيته الأولى أن يغلق على هذا الشعب في صندوق وأن يجلس فوق الصندوق ويدندن للعالم المارين من حوله بآياتٍ من كتابه الملون، ويخبرهم بحنجرته العياطة عن وجهة نظره في كل شيء، وحين يضجر المستمع من كلامه، يرفع الملازم المفاتيح بخفة في الهواء ثم يعود ويلتقطها مرة أخرى، ويقول، لا تذهب سأريك شيئاً مثيراً في هذا الصندوق، يوجد هنا في الداخل شعب، نعم شعب، أنا وضعته هنا، ما رأيك هل تود أن تلقي نظرة؟ اسمه الشعب الليبي، إنه غير مؤذ ولا يعض، تعال لأفتح لك فتحة وتراه قابعاً في زاوية الصندوق الداخلية ويحتضن بكل قوة عشرة فردات خبزة قدمتها له صباحاً بعد أن استدرجته إلى الصندوق.

يا للدوار المضجر…..

مازالت قصة الملازم تثير اهتمامي ولا أزال أرفض أن أصدق أن هذا الملازم الممصوص استطاع أن يضع الشعب بكامله في صندوق مزاجه اعتماداً على حنكته وتدبيره.

من كان يقف وراء الملازم؟ سؤال كبير مازال أحد لا يرغب في البحث عن جواب مقنع لهذا السؤال.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى