الرئيسيةالراي

رأي- البسملة في الدساتير وإعلانات الحقوق والحريات

* كتب/ د. الهادي أبوحمرة،

 

استغرقت القضايا الثانوية النقاش بشأن مشروع الدستور، وكان ذلك على حساب تعميق النظر في الموضوعات المركزية.

فقد تم إعطاء عدة مسائل أكثر من حجمها. وانتقلت النخبة الليبية من طول المشروع وقصره إلى لحن كلماته وموسيقى نصوصه، ومن التركيز على ما ضُمن فيه من مصطلحات إلى ما لم يُضمن؛ مقارنة ببعض من الدساتير التي تقدم من البعض على أنها مرجعية لا يجوز تجاوزها، وذلك بدل التركيز على مضامين البناء الدستوري، وأسسه، والمبادئ الحاكمة فيه، وتكامل نصوصه، والنتائج المتوقعة عند دخوله حيز النفاذ، ودون اعتماد منهج “اعتبار المآل”. ومن آخر هذه المسائل مسألة البسملة في الدستور والحكم القضائي.

ويمكن التمهيد لهذه المسألة بالقول بأن بداية الكتابة والقول والفعل بالبسملة ليس شأنا خاصا بالمسلمين، إذ إن لليهود والمسيحيين بسملتهم، بل أن للجاهلية -أيضا- بسملة. فقد كان العرب قبل الإسلام   يفتتحون كلامهم ويستهلون مكاتباتهم “باسمك اللهم”. وبعد الإسلام تحولت هذه البسملة “أولا” إلى “بسم الله” بعد نزول قوله تعالى: “بِسْمِ اللهِ مُجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا”، ثم إلى “بسم الله الرحمن” بعد نزول قوله تعالى: “قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَٰنَ”، ثم انتهت إلى “بسم الله الرحمن الرحيم” بعد نزول قوله تعالى: “إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ”. “كتاب الدر المنثور في التفسير بالمأثور، تفسير سورة النمل”. دون أن يضفي هذا التصدير القدسية على أي عمل، فما يصدر من البشر، ويبدأ باسم الله يبقى عملا بشريا يستعين القائم به بالله، ويطلب منه بتصدير البسملة التوفيق والسداد، ودون أن تغير هذه البسملة من كون العمل عملا قابلا للنقد وللتعديل، وللاستئناف وللنقض.  فكما يمكن أن يكون عملا موافقا للقانون، يمكن أن لا يجد له أساسا فيه، وكما يمكن أن يكون واجبا، أو جائزا، يمكن أن يكون محظورا، أو مكروها، ويظل محلا للبطلان، أو الانعدام، أو السقوط، أو عدم القبول، ومعرضا لأن يأتي عليه ما يجعله كأن لم يكن. فتصديره أو صدوره بالبسملة، لا يحميه، لا شرعا، ولا قانونا من كل ذلك.

ومن أهم الأعمال القانونية التي جرت العادة على أن تستهل ب “بسم الله الرحمن الرحيم”، أو أن تصدر بالاستعانة بالله في عدة دول عمل الدستور، والذي هو قانون القوانين، والمسطرة التي تصدر وفقا لها التشريعات، والتي يؤسس عليها القضاة أحكامهم، ولا يملكون الخروج عنها. حيث إن عديد الشعوب تبدأ باسم الله، وتستعين به، وتطلب رعايته في مقدمة، أو تمهيد، أو توطئة، أو ديباجة دساتيرها.

هذا الاستهلال أو طلب الاستعانة ليس حكرا على دساتير الدول الإسلامية، ولا على الدول التي تنص على دين رسمي للدولة، أو تلك التي تجعل من شريعتها الدينية مصدرا لتشريعاتها. فكثير من الدساتير التي تصرح بعلمانيتها، وتنص على فصل الدين عن الدولة تلجأ إلى الله، وتطلب حمايته.

ففي مقابل البسملة الإسلامية التي تبدأ بها دساتير؛ كالدستورين التونسي والمصري، نجد دساتير لدول غير إسلامية تبدأ بالبسملة، ومنها- على سبيل المثال لا الحصر- الدستور السويسري الذي يُفتتح ب”بسم العلي القدير” منذ سنة 1848م…

Dieu Tout-Puissant conserve sa place dans la Constitution suisse
Sylvain Besson, Berne – Le Temps 18 mars 1998
والدستور الغاني الذي يبدأ  ب “بسم الله العظيم”. كما أن دساتير أخرى لا يمكن أن توصف بكونها تؤسس لدولة دينية تستعين بالله قبل الشروع في سرد نصوصها؛ كالدستور الأرجنتيني الذي يناشد في مقدمته الحماية الإلهية، ويقر في بدايته بأن الأيمان بالله مصدر كل حكمة وعدل، ودستور الاكوادور الذي يقدم لأحكامه بالابتهال باسم الرب، ودستور جنوب أفريقيا المتعددة الديانات الذي ينهي ديباجته بطلب الحماية من الله، ودستور الهندوراس، والذي رغم أنه يصرح بعلمانية الدولة، ويوجب أن يكون الرئيس علمانيا، ينص في مقدمته على أن الشعب يصدر دستوره بالاستناد إلى الحماية الإلهية.

وبالإضافة إلى الدساتير، فإن بعضا من إعلانات حقوق الإنسان التي تكرس ما تصفه بالحقوق الطبيعية، وتؤسس لكون الشعب مصدر السلطات، تتبرك بالله عز وجل، وتلتمس مساعدته وعونه في ديباجتها. ومن ذلك الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطنة. ففي فرنسا التي تُعد مرجعا في الفصل بين الدين والدولة، ومن أمهات العلمانية الحادة، نجد أن إعلانها لحقوق الانسان والمواطنة الصادر سنة 1789م ينص في نهاية ديباجته على أن: (الجمعية الوطنية تقر وتعلن تحت رعاية الخالق (الكائن الأسمى) حقوق الإنسان والمواطن الآتية:

L’Assemblée nationale reconnaît et déclare, en présence et sous les auspices de l’Être Suprême, les droits suivants de l’homme et du citoyen

مع العلم أن إعلان حقوق الإنسان والمواطنة الفرنسي هو المكون الأهم في مجموع النصوص والمبادئ التي لها قيمة دستورية، والتي تتأسس عليها الرقابة الدستورية.

Bloc de constitutionnalité, Voir, décision n 71-44 DC

كما أن ميثاق الحقوق والحريات الكندي، والذي يعد جزءا من الدستور، هو ميثاقٌ ينطلق من الإقرار بأن كندا قائمة على المبادئ التي تقر بسمو “سيادة” الله وعلوية القانون.

Attendu que le Canada est fondé sur des principes qui reconnaissent la suprématie de Dieu et la primauté du droit

الأمر يبدو أنه في طريقه للتحول حتى في دول لها تاريخ مختلف تماما عن كثير من دول العالم؛ كروسيا، حيث إن الإصلاح الدستوري الذي قدمه الرئيس الروسي فلاديمير بوتن بتاريخ 15 يناير 2020م يتجاوز مجرد إحداث توازن مؤسساتي جديد؛ ليصل إلى مسائل رمزية مهمة منها ذكر الإيمان بالله في تصدير الدستور

En Russie, « Dieu » devrait faire son apparition dans la Constitution

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*عضو الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى