الرئيسيةفضاءات

عساكر ومؤسسات.. جيش تونس وعساكر ليبيا.. أخرج الفوارق واكسب دولة

* كتب/ عبدالوهاب الحداد 

يمتلك العسكريون التونسيون ذات الشماعة التي يعلق عليها العسكري “حفتر” محاولاته المميتة للاستيلاء على السلطة، ألا وهي الإرهاب والارهابيين، مع أفضلية وجود جيش حقيقي لدى تونس، لا مجرد خليط من رتب و نياشين ومسلحين قبليين مع بقايا فتات مليشيات أمنية حاقدة معززة بمرتزقة من كل الأصقاع.

ورغم ذلك لم يفكر عسكريو تونس –أو لم يفعلوا على الأقل-  ما اقترفته “شلة” عساكر في ليبيا من محاولات انقلابية أدت لإشعال حروب بالجملة، حروب دمرت مدنا ودفنت قوافل من الشباب، بل والأطفال والنساء، ناهيك عن موجات النزوح والتهجير لمائات الآلاف من السكان، وتمزيق نسيج اجتماعي هو في أصله بال، أما جرائم الحرب فحدث بحرج ودونه.

فلماذا لم ينقلب عساكر تونس؟

لماذا لم يحاولوا على الأقل السيطرة على الحكم في دولة شهدت وتشهد إرهابا داخليا وخارجيا، وإرهابيين هم الأكثر شهرة عددية في العالم، مع موجة اغتيالات لقيادات سياسية بارزة، وتواجد حزب “إسلامي” فاعل، ووضع اقتصادي متأزم، وأمن قومي يهدد حدودها.

جواب هذا الاستفهام هو ذاته جواب السؤال المطروح حول سبب نجاح تونس في تجربتها الديمقراطية حتى الآن، رغم ما تعرضت له من هزات ليس أقلها وفاة الرئيس وشغور منصبه وانتخاب بديل له يحمل جذوة الثورة في صدره.

وإن كان مرد نجاح تونس راجع إلى ثقافة شعبية عامة، مع وجود مؤسسات نقابية عريقة، إلا أنه يمكن طرح السؤال بصيغة أخرى: عسكر تونس أين هم من كل ما حدث ويحدث في بلادهم؟ خاصة وأن الثورات الشقيقة لثورة الياسمين جميعها ارتبطت بالعسكر، وظهر أن أحد مقاييس نجاح الثورات مرتبط بموقف العسكريين، فهم وإن لا يعول عليهم في  إنجاح ثورة، فلا يمكن إنكار قدرتهم على القضاء عليها، أو جعل الثورة ثورات متتالية وحروبا أهلية متفرقة.

جيش تونس وكتائب القذافي.

الجيش الليبي ذاق طعم السلطة بعد انقلاب 1969، متأثرا بموجة الانقلابات في محيطه الإقليمي في ذلك الوقت، إلا أن العساكر لم يهنئوا حينها بالحكم، وانقلب عليهم ابن مؤسستهم، محصنا نفسه من مؤسسته عندما شعر بخطرها، مخافة الاكتواء بالنار التي كوى بها غيره.

فالعساكر الليبيون أنفسهم يعرفون أن مؤسستهم الناشئة أذابها القذافي على حساب كتائب أمنية لأبنائه والمقربين من أبناء قبائل بعينها، وجعل عقيدتها “الدفاع عن شخص قائد الثورة”، خاصة بعد محاولات الانقلاب عليه من قبل رفاقه في أكثر من مناسبة، ليجعل من الضباط  خيالات داخل بزاتهم يختمون “كتيب شهر الجمع”  لأبناء الشعب المسلح غير القابل للهزيمة.

في تونس عمل بورقيبة على تحصين بلده من الانقلابات حين استطاع “ترويض” العسكر، مستفيدا من التجربة الفرنسية في التعامل مع جنرالاتها، وكما فصل كل شيء عن السياسة، فصل بورقيبة الجيش عن الحياة السياسية، وسن تشريعات تمنع العسكريين من حق الترشح أو الانتخاب، ومنعهم من الأدلاء بآرائهم السياسية، ورسخت في عقيدتهم كلمات النشيد الوطني قولا وفعلا، كل ذلك مقابل الحفاظ على وقارهم وهيبتهم وامتيازاتهم ..

ولكن طعنة بورقيبة جاءته من البوليس، في تكرار حرفي لمقولة يوليوس قيصر: “حتى أنت يا بروتس”.

وجاءت الثورة بالحق

فبراير 2011 اتضح الفارق بين أبناء الجيش والكتائب الأمنية في ليبيا، فبشكل عام انضم العسكريون “فرادى” للثورة، وقمع الكتائبيون الثوار، فأبناء القوات المسلحة الليبية كان لهم ثأرهم الخاص مع القذافي الذي همشهم بل وأذلهم قبل أن يقتل الآلاف من رفاقهم في نزواته ومغامراته الانتحارية.

أما في تونس فالمعروف أن “زين العابدين” كان قد همش وزارة الدفاع وجيشها على حساب الداخلية وبوليسها، البوليس الذي ما إن شرع في قمع ثوار الياسمين حتى خرج الجيش مدافعا عنهم، رافعا شعاره “ثورتكم ثورتنا” ملتزما بعقيدته الحيادية تجاه الشأن العام، ليصبح رئيس الأركان حينها “رشيد عمار” أشهر الشخصيات التونسية، ثم تقاعد عام 2013 بحكم السن.. نعم تقاعد!

قطاف الثورة

فهم “بن علي” وقبر بأرض الحرمين، واستعصى على القذافي الفهم إلى يوم العصا ليصير مجهول القبر.. ووقف كل شعب ينظر لنفسه متسائلا ماذا بعد؟

سارت الثورة في البلدين تتلمس طريقها نحو الحرية و الديمقراطية والمدنية ومفاهيم أخرى جل أبناء الثورة سمعوا بها ولم يعيشوها يوما، بل عاشوا نقيضها تماما.

في تونس عاد العساكر لثكناتهم دون منٍّ على أبناء وطنهم لحمايتهم من رصاص بوليس بن علي، ورغم الفرص التي لاحت للعسكريين للانقضاض على السلطة لسنوات بعد الثورة، إلا أنهم رفضوا الانجرار لذلك، محافظين على قسمهم تجاه وطنهم.

في ليبيا، حيث لا جيش ولا مؤسسة عسكرية، ولا أي مؤسسة أخرى، كان من المتوقع أنه تتعثر المسيرة، وأن المشوار سيكون طويلا بعد خراب عقود، هذا التوقع لا ينطبق على من بنفسه غرض ومرض، حين برز من بين العساكر من هو عاقب من عصر الانقلابات، وخرج ليعلن انقلابه على السلطة، وتجميد الدستور والدم في عروق الليبيين، فشل حينها، لتتلقفه أياد وسخة ملأته بالوهم والنهم، وأعطته ما يريد لينفذ ما يريدون، حررت له الوصفة السحرية “الإرهاب”، فليس هناك من رداء فضفاض يضاهيه، فصله كما تشاء وألبسه لمن تريد، وهذا ما كان..

 

واقعية نظرية المؤامرة

لأننا نتحدث عن تونس وليبيا، دعونا نروي هاتين القصتين لنرى هل المؤامرة مجرد نظرية أم كان لها حضور في كلا البلدين؟

فبحسب صحيفة “موند أفريكا” الفرنسية أطيح بوزير الداخلية التونسي لطفي براهم في السادس من يونيو 2018 بعد لقاء سري جمعه بمسؤول رفيع في جهاز الاستخبارات الإماراتية، جاء بعد عودة المسؤول الإماراتي من لقاء تحضيري لقمة باريس التي ستناقش الأوضاع في ليبيا، حينها اتفق الاثنان على “خارطة طريق” لإدخال تغييرات جوهرية على رأس السلطة في تونس!

وفي عام 2015 كشف تقرير بموقع «ميدل إيست آي» عن إفشال الجزائر لمحاولة انقلابية في تونس بقيادة الإمارات.

أما في ليبيا فالتدخل الإماراتي لم يكن يوما سريا أو مغلقا، بل ظاهرا للجميع بكل وقاحة ودون خجل من الداعم أو المدعوم، وتكفي الإشارة لتلك المقولة الشهيرة لمن يفترض أنه رئيس للبرلمان الليبي حين قال على لسان محمد بن زايد “حلالنا حلالكم” أو ما قاله العسكري حفتر بأنه مع مصلحة مصر وإن كانت ضد مصلحة ليبيا، وللجادين مراجعة تقارير فريق خبراء الأمم المتحدة.

فهل كانت المؤامرة على حلم البلدين واقعا، أم نظرية لتبرير الفشل الذي نحن فيه؟

ثم إذا كانت واقعا، لماذا فشل المتآمرون في تونس ونجحوا في ليبيا؟

 

جيش الدولة أم دولة الجيش

قال رئيس الأركان الأسبق بالجيش الفرنسي بيير دو فيلييه: “لن أسمح للحكومة أن تعبث معي”.. وذلك ردا على قرار ماكرون بخفض الإنفاق الدفاعي.

بعد ثلاثة أيام قال ماكرون لصحيفة “لو جورنال دو ديمونش” ليس أمام رئيس الأركان سوى الموافقة على ما أقول” مضيفا بحزم: “إذا وقع خلاف بين رئيس أركان ‍الجيش والرئيس.. يذهب رئيس الأركان” وخلال يومين فقط قدم رئيس الأركان استقالته وأعلنت الحكومة الفرنسية عن تعيين رئيس أركان جديد.

نعم هكذا وبكل بساطة.

فالذي يفصل بين جيش الدولة ودولة الجيش هو “الاستقلال الاقتصادي المالي” للمؤسسة العسكرية عن موازنة الدولة العامة دخلا وإنفاقا، ففي مصر يمثل الجيش دولة لوحده باقتصاده واستثماراته ومشاريعه، ويتفوق على اقتصاد بقية مؤسسات الدولة، على العكس من تونس، فجيشها ينتظر نصيبه من الميزانية العامة كأي مؤسسة أخرى في البلد.

عساكر حفتر اليوم يعملون بالقوة والغصب للاستيلاء على ما تصله أيديهم من موارد الدولة، وخلق منظومة مالية مستقلة بذاتها، ولكم في تصريحات “عون الفرجاني” حول قانون التعبئة العامة وما يعرف بهيئة الاستثمار العسكري خير مثال.

 

بين عمار والسيسي.. احزن يا قلبي

عقيدتان عسكريتان مختلفتان في كل من تونس ومصر، فالأولى عقيدتها تنطلق من قسمها بالمحافظة على الدستور التونسي والنأي عن السلطة والحكم، والثانية عقيدتها أنها السلطة، والسلطة هي، وكله بالدستور.

فعمار تونس استقال بعد أن قام بكامل دوره تجاه ثورة أبناء بلده، أما السيسي فقصته تبدو أماكم يوميا على شاشات التلفزيون.

أما هنا، في بلاد ما بين تونس ومصر، فالعقيدة هي أن “الإعلان الدستوري مجمد” وأن مقترح مشروع الدستور “كارثة” ويجب أن يلغى كل هذا “الدفنقي” وأن “كل الأسلحة مباحة” وأن “مافيش أسرى .. الميدان الميدان .. انتهت القصة”.

المحصلة أننا بين تجربتين، فإما تونس بديمقراطيتها وجيشها، وإما مصر و”سيسي كي سيسيهم”، اللهم إلا إذا كانت تجربتنا “لا شرقية ولا غربية” وصدقت مقولة إن “ليبيا ماهيش زي مصر وتونس” سواء أكان القصد أننا سنتفوق عليهم في التجربة بنموذج نحسد عليه، أو بحال آخر لا نحسد عليه..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

* نشر على صفحة المركز الإعلامي لبركان الغضب على فيس بوك الخميس (07 نوفمبر 2019م)

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى