الرئيسيةالرايثقافة

زمام المبادرة بين مختار معافى وعلى رشدان

* كتب/ عبدالحميد جبريل،

لم تكن فكرة المسرح وظهورها في مدينة مصراتة مجرد هوس أو شطحة، أو أنها مجرد ترف فكري يقام وتنتهي حفلاته وكفى، وهي ليست نبتة شيطانية مقطوعة الرأس ليس لها أصول متجذرة في المدينة، وذلك بانطلاقها في مرحلة التأسيس من منظور ووعي تربوي للرواد الأوائل، الذين قادوا تلك المرحلة داخل هذه المدينة في ظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية بائسة، وقد كان انتشارها وإشهارها من خلال أول مدرسة تأسست للتعليم على النمط الحديث في مصراتة قبل نهاية النصف الأول من القرن الماضي، بالتوازي مع نظام التعليم التقليدي المنتشر من خلال الكتاتيب والزوايا الذي كان سائدا في تلك الفترة، حيث كان الشأن لمصراتة كشأن بقية المدن الليبية الأخرى في ذلك، ولم تكن فكرة استخدام المسرح لمخاطبة الناس بشأن قضاياهم الاجتماعية بالدرجة الأولى وسط تلك الظروف محطا لاهتمام للكثيرين، في ظل انتشار الأمية والتعليم المحدود والثقافة المغلقة التي كانت سائدة في تلك الفترة، والتي ربما نظر البعض إلى المسرح من خلالها بعين الخطيئة.

والمسرح حتى يومنا هذا لم ينفصل عن العملية التربوية والتعليمية، سواء كمؤسسة ثقافية مستقلة أو كان على مستوى المؤسسات التعليمية والتربوية في المدينة، والتي أخذت على عاتقها الاستمرار في تشجيع استمراره وتحصينه في أثناء انتشاره من أي عملية إسفاف أو هبوط تحت مستوى القيم الدينية الاجتماعية والفنية الراقية، بمقاييس كل زمن في كل مرحلة من المراحل التي مر بها في المدينة عبر تاريخه. ولعل الكتاب الذي أصدره الدكتور رشدان، عن الأستاذ إبراهيم الكميلي يفي بالتوضيح من هذه الناحية.

والمسرح بطبيعته لا يصلح أن يكون أداة طيّعة في يد أي سلطة سياسية مهما كانت توجهاتها، ولا يمكن أن يكون أداة من أدوات التطبيل والتزمير كشأن بعض الوسائل الفنية الأخرى لأي نظام سياسي، ومهما حاول هذا النظام تطويعه سوف تكون المحاولة محكومة بالفشل، وقد ثبت ذلك في العديد من التجارب، ولهذا كانت مراحل الإنتاج في المسرح ذات القيمة الفنية والأدبية الراقية قليلة ومتباعدة ومتقطعة داخل المدينة وبقية المدن الليبية الكبرى، وعلى مراحل تاريخية مختلفة بسبب غياب الدعم المادي أولا لمثل هذا الفن، وليس أدل على ذلك كمضرب للمثل، بالنظام السياسي الذي حكم ليبيا أطول فترة زمنية من تاريخها الحديث منذ سنة 1969م، فهو بعد أن قام بدعمه وأنشأ هيئة خاصة بالمسرح عند بداية حكمه، سرعان ما نفض يده من هذا الدعم بعد سنوات قليلة جدا من تاريخ حكمه، وخاصة بعد أن اكتشف أنه يشكل خطورة في التأثير على الرأي العام بالنسبة له عند منتصف السبعينيات من القرن الماضي.

وتظل عملية التوثيق لهذا الجنس المتفرد الذي يجمع بين الأدب والعلم والثقافة وكافة أشكال الفنون الأخرى مجتمعة، من أهم عمليات التوثيق التي لم تحدث في السابق؛ بسبب قلة الإنتاج وتباعد المراحل الزمنية للأسباب التي ذكرناها آنفا، وذلك لأن التوثيق لا يقتصر على النص المسرحي المتوفر وحده، والذي يكون كافيا أحيانا لرسم مرحلة تاريخية معينة ولد فيها ذلك النص، ليوثق أي مرحلة بذاته، ولكن عملية التوثيق التي نعنيها هنا هي السرد الكامل للعملية المسرحية بأكملها، دون الاكتفاء بالاعتماد على النص وحده مجردا، وخاصة إذا كان ذلك النص وليداً للمرحلة الأولى التي تواترت معها عملية التأسيس والبدايات في المسرح.

فإذا كان المربي مختار معافى هو أول من أخذ بزمام المبادرة وأسس لبداية المسرح في مصراتة منطلقا في ذلك من منهاج تربوي ومدرسي، وقد كتب نصا مسرحيا يعتبر من أول النصوص المسرحية المكتوبة التي كتبت للمسرح حتى الآن، ووثقت تلك الكتابة لمرحلة اجتماعية واقتصادية من تاريخ المدينة في نهاية المنتصف الثاني من القرن الماضي، وأنه يعتبر بمنظور عصرنا الحالي بسيطا، فهو يعتبر ترفا فكريا في تلك المرحلة ولكنه يعتبر بالنسبة لنا وثيقة هامة في هذا المضمار.

إلا أن د/ علي يوسف رشدان قد أخذ على عاتقه أيضا القيام بعملية توثيق شاملة لجميع مراحل تاريخ المسرح التي مرت في مدينة مصراتة، مكملا بذلك زمام المبادرة التي بدأها المرحوم مختار معافى، عبر كتابيه (أي رشدان) تاريخ المسرح في مصراتة متداركا الرجوع بتأصيل عملية ما كتب بالعودة إلى الجذور مرة أخرى، وبداية التأصيل من أساسها التي بدأها المرحوم مختار معافى من خلال كتابه الأخير الذي أصدره (مختار على معافى وتجربته في المسرح الاجتماعي) ليكسي بذلك وقارا وهالة وجدانية على كل الجهود التي بذلت من بعد معافى وإلى الآن، وقد كان له مأ أراد، وكان في غاية الإنصاف والعدل عندما أعطى لكل دي حق حقه، وأنه إذا كان المرحوم مختار معافى هو أول من أسس وكتب للمسرح في مصراتة، فإن د/رشدان هو أول من وثق لتاريخ المسرح في مصراتة عبر أكثر من سبعين عاما، وهو توثيق نزيه بذل فيه جهدا كبيرا، ويعد في غاية الأهمية للدارسين والبّحاث لجانب مهم من تاريخ هذه المدينة.

المزيد: 

صدور كتاب جديد للمؤلف علي رشدان عن تجربة المسرح الاجتماعي عند المرحوم “مختار معافى”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى