الرئيسيةالراي

رأي- لماذا مات الليبيون جوعا بينما كان البحر مليئا بالأسماك؟

* كتب/ خليفة البشباش،

كثيرا ما يطرح هذا السؤال، وغالبا في سياق الازدراء والسخرية،،

إذا كنت ممن يمارس هذا السلوك فأرجو أن يجعلك مقالي الصغير هذا تكف عن ذلك قليلا، وإذا كنت ممن يزعجك هذا الأمر فدعني أقول لك شيئا في البداية قد يكون فيه بعض العزاء.. لست وحدك… يطرح هذا التساؤل الملغم في كثير من أنحاء العالم، مثلا -وبصورة عنصرية أكثر فضاضة- يسخر البريطانيون من المجاعة الإيرلندية المعروفة تاريخيا بـ “مجاعة البطاطا” حيث قضى أكثر من مليون إيرلندي جوعا وهاجر أضعافهم، بينما كانت ولا زالت إيرلندا -المحاطة بالبحر- أحد أفضل الأماكن لصيد الأسماك!

في الحالة الليبية، تكررت المجاعات كثيرا، تحدثنا الوثائق والكتب وحتى الذاكرة الشعبية على ألسنة كبار السن عن مجاعات مأساوية، أقربها كان في أربعينيات من القرن الماضي وبالتأكيد فقد سمع الجميع قصص عن “عام الشر” و “عام السفناري” و “عام الذبح” إلخ من تسميات المجاعات التي تحتفظ الذاكرة الشعبية والتاريخية بقصصها المؤلمة، سوء الإدارة وغياب التنمية وقلة الأمطار والآفات الزراعية كانت كلها عوامل تسببت في تفاقم آثار المجاعات عبر القرون، وبما أننا لسنا بصدد التفصيل في هذه المجاعات، دعونا نختصر ونأتي إلى سؤالنا، فشلت المحاصيل، لا يملك الناس شيئا يأكلونه، يتساقطون واحدا تلو الآخر مستسلمين للأسقام أو لحتفهم… لماذا لم يذهبوا للصيد من البحر؟ في الحقيقة، السؤال مبني على افتراض خاطئ، لقد فعل الصيادون على الدوام كل ما في وسعهم وانضم من استطاع إلى المهنة واستقبل البحر زوارا جددا، لكن فكرة أن كل الناس بإمكانهم التغلب على المجاعة من خلال ممارسة الصيد هي فكرة غير واقعية لعدة أسباب.

أولا… فقد كل شيء قيمته أمام عملة “الأكل”! ثمت أشخاص اشتروا أراضي وعقارات مقابل كيس من التين المجفف أو التمر أو قليل من الدقيق بالكاد تكفي لإطعام عائلة لبضعة أسابيع بأقل الحصص التي تبقيهم أحياء، إذا كانت هذه  قيمة “تموين” في تلك الحالة، تخيل كم يمكن أن تبلغ قيمة “قارب + شبكة + معدات تجديف”؟ لا يمكن للغالبية الساحقة من الجائعين تحمل تكاليف معدات الصيد حتى بسعرها الطبيعي قبل تعرضهم للمجاعة، فكيف الحال بعدها وقد انهارت قيمة كل ما يملكونه؟ إضافة إلى ذلك، يوجد ضرائب ورسوم على الصيادين دفعها للسلطات التي لا تبالي كثيرا بمعاناة الناس.

ثانيا… ليبيا ليست بلدا لديه صناعة متقدمة في الخشب والنجارة ولا في الحدادة والمعادن، في الواقع لا تملك ليبيا خشبا أصلا وكمية الغابات والأشجار فيها ضئيل، معظم المواد والأدوات التي كانت تصنع منها قوارب الصيد ومعداته البدائية كانت مستوردة، للوصول إلى كمية من إنتاج السمك تكفي لإطعام شعب بأكمله أو حتى مدينة واحدة، أنت بحاجة إلى أساطيل من قوارب وسفن الصيد، لا يمكنك صناعتها لأنك لا تملك الخام ولا القدرة على التصنيع، ولا يمكنك استيرادها لأنك ببساطة لا تملك المال، إضافة إلى أنك لم تكن تملك الإرادة السياسية للتنمية وتطوير النشاطات الاقتصادية القائمة، حيث كان التسلط والسيطرة والجباية وتقوية العساكر والعسس هو أسلوب الحكم الوحيد الذي عرفته ليبيا.

ثالثا… فكرة أن الصيد يتطلب صنارة و”سطلا مقلوبا” تجلس عليه والكثير من الوقت جالسا مستمتعا بفنجان قهوة ثم يأتيك السمك هي فكرة سطحية حتى لا أقول سخيفة، يمكن أن يكفيك هذا أنت وصديقان يشعران بالملل، لكنه لا يطعم عائلات، يتطلب الصيد الحقيقي التجديف طيلة النهار والإبحار مساحة شاسعة داخل البحر للوصول لمناطق صيد وفيرة، وهو عمل يتطلب الكثير من الجهد ويستهلك الكثير من الطاقة والسعرات الحرارية، لا يستطيع أشخاص أنهكهم الجوع ولم يتناولوا قدرا كافيا من الطعام لأيام طويلة تحمل مشاقه، إضافة إلى أنه عمل يتطلب قدرا من الخبرة والممارسة والمهارة، لا يصبح الإنسان صيادا بين ليلة وضحاها.

رابعا… للمجاعات تأثير ديموغرافي سريع، حالما تبدأ المجاعة يهاجر عدد كبير من سكان الريف والدواخل إلى المدن الرئيسية أملا في أن تكون الأوضاع هناك أقل شدة، وهو ما يعقد الأمور، فهذه المدن لا تستطيع أصلا إنتاج غذاء يكفي سكانها قبل الهجرات فلك أن تتخيل الأمر مع الهجرات الأخيرة.

خامسا… ترافق المجاعات انتشار الأوبئة والأمراض، ضعف المناعة، في نظام صحي يعتمد على الرقية والوصفات الشعبية محدودة الفائدة، والتي لم يعد بالإمكان الحصول عليها رغم ذلك، هل يمكن للأسماك أن تكون وصفة جيدة للبقاء حيا على افتراض إمكانية الحصول عليها؟

لا يمكن الاعتماد على الأسماك لوحدها –بعض المجاعات استمرت لأعوام- على الرغم من أنك ستنجو من الموت جوعا لفترة ما، لكن جسمك مع الوقت سيستسلم لعدد من الأمراض والتأثيرات السلبية لغياب بقية العناصر الأساسية للنظام الغذائي، خصوصا وسط انتشار الأمراض، لا يحيا المرء بالبروتين وحده! هذا في حال حصلت عليه أصلا.

سادسا… دائما ما تقوم السلطة الفاسدة والمتنفذون بمفاقمة المآسي، في أغلب الفترة العثمانية كانت السلطة مهتمة بالجباية والتحصين وتعاملت مع ليبيا كثغر، المهم هو أن تكون القوة جاهزة وأن تستطيع الضرائب المفروضة بقسوة على الناس تمويل هذه القوة، لم يتم النظر إلى التنمية إلا نادرا، وفي كثير من الفترات لم يستطع الباشوات حتى المحافظة على المستوى المعيشي الموجود بل زادوا الوضع سوءا وجعلوا الانتاج الزراعي يتراجع، في الفترة الإيطالية المبكرة، كان القتل والتعسف وسلب الأراضي ومخيمات الاعتقال قد جعلت الأمر مأساويا على شريحة واسعة من الليبيين، منعتهم من مزاولة زراعتهم لسنوات طويلة وتسببت في فقدانهم لمصدر رزقهم، وانخفض عدد السكان بشكل كبير قتلا وتهجيرا وجوعا، في أواخر العشرينات وبداية الثلاثينات أدت التحسينات الزراعية التقنية والإدارية إلى تحسن ملحوظ في الانتاج على الرغم من أنه كان قائما على نظام ظالم في سلب الأراضي، لكن هذا التحسن لم يطل أمده وتزامن اندلاع الحرب العالمية الثانية مع عودة المجاعات بقوة،  لا تقل السلطات اللاحقة فسادا وسوء إدارة بل ربما تفوق سابقاتها لكن –ولله الحمد- جاء النفط فجأة وأنقذنا من الجوع، في حالة الأزمات تحتاج لسلطات تتمتع بالكفاءة والرغبة في إدارتها وانقاذ شعبها، وهي سلطة لم ترها ليبيا قط.

في ظل المعطيات السابقة، لو كتب عليك تجربة المجاعة وكنت تملك قليلا من المال، أو آخر عقار أو شيء يمكنك بيعه… هل ستستثمر هذا المال في محاولة دخول عالم الصيد وهي مغامرة قد تنجح وقد تفشل على الأغلب، أو ستستثمره في شراء مكان على قارب أو دابة أو أي وسيلة تحملك بعيدا إلى بلد آخر ليس فيه مجاعة؟ أراهن أنك ستسلك الخيار الثاني.. مثلما فعل كثيرون.

أما لو كنت لا تمتلك المال مطلقا ولا شيء ذا قيمة لبيعه -مثل أغلب الناس- وتفتقد للخيارين معا، فليس امامك سوى التضرع إلى الله، وانتظار الفرج، وسواء أدركتك عناية السماء أو قضت عليك أقدارك أن تموت جوعا، وهي تجربة شنيعة، فروحك تستحق بعض الاحترام، أو على الأقل لا تستحق أن يأتي بعد زمن حفيدك المتحذلق الذي لا ينتج شيئا سوى ثاني أكسيد الكربون ويقول مستهزئا: أوه لماذا لم تصطد السمك؟! يا لذكائك.. لقد كان البحر صغيرا جدا لدرجة أن جدك لم ينتبه لوجوده، شكرا لملاحظتك القيمة.

للكاتب أيضا:

هذا مالم يكن “المصراتي” يخشاه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى