الرئيسيةفي الذاكرة

قصتي مع أبو خليل/ ح 2

 

” … مررت بأصعب مرحلة في حياتي… وجبات يومية من العذاب.. والحرمان من النوم ومحاولات تحطيم روحي المعنوية.. ساعدني إيماني بالله وبعدالة قضيتي.. ساعدتني بنيتي الجسدية… وعملي المبكر في طفولتي في الحقول وحصيلة أيام الجندية.. صمدت..

كنت كلما شعرت بالوهن أقول لنفسي اصمد هذا اليوم فقط.. ليوم واحد فقط.. ثم قرر ما تشاء.. كان ذلك يمنحني القوة على تحمل مشاق ذاك اليوم.. كنت أنكر كل التهم الموجهة لي وأنكر معرفتي بأي جماعة مسلحة.. حاول المحقق أن يجرب معي الطرق الناعمة.. فوعدني لو أدليت بكل التفاصيل عن المجموعة فإنني سأكون في بيتي وبين أطفالي خلال فترة قصيرة. لكني كنت أكثر وعيا مما يظن، كنت أعرف أن نهايتي ستكون في اعترافي، فيزداد تصميمي وصمودي ويمنحني الله قوة على قوة.”

” ….بعد أسابيع من التحقيقات وجلسات العذاب.. أيقن المحقق أنه لن يحصل على شيء مني.. تركوني يوما أو يومين.. ثم فجأة دخلوا زنزانتي واقتلعوني منها ووضعوا غطاء على رأسي واقتادوني إلى مكان ما وسط الصفعات والضربات والشتائم والتهديدات.. تيقنت ساعتها أنني دخلت المرحلة الثانية، ألا وهي مواجهة أحد الشهود… حاولت وسط الركلات أن أركز على كيف لي أن أخرج من هذا المأزق.. كانوا يصفعون ويركلون وكنت أحاول جهدي أن أثبت أفكاري وتركيزي.

* كتب/ عطية الأوجلي،

كانت معنوياتي كبيرة لأنني نجحت في الخروج كما أردت وخططت من وجبات العنف الأليم، سمعت أصواتا تقترب.. ثم صوت باب يفتح، وتم الإلقاء بي على الأرض بكل قسوة.. أزيح بعدها غطاء الرأس عني.. وبين محاولتي التكيف مع الضوء الذي أعمى بصري ومحاولتي جمع أفكاري وتحشيد قواي.. لمحت خطفا.. ثمة شبح تراءى أمامي.. بسرعة البرق أدركت أنه أحد الشباب الذين قمت بتدريبهم، ولكنه لم يكن من الذين زاروني بالبيت.. كان خيالا محطما.. منهكا.. مطأطئ الرأس.. ألهمني الله في تلك الدقيقة أن أصرخ فيه بأعلى صوتي وبسرعة.. الله لا تربحك.. ماذا فعلت لك.. لماذا تتبلى علي.. مين سلطك علي؟.. من أين تعرفني؟.. اتقي الله يا راجل..

صرخ المحقق في أن أصمت بينما صفعني أحد الجنود بقوة.. ساد الصمت لثوان.. ثم استدار المحقق نحو الشاب وسأله… هل هذا هو من الذي قام بتدريبك على السلاح؟ …أدار الشاب راسه ببطء نحوي.. تطلع في… لعلها أطول دقائق عشتها في حياتي.. حاولت أن أبدو غاضبا وثائرا وأنا أنظر إليه.. انكسر بصره.. تطلع نحو المحقق قائلا.. لست متأكدا.. يشبهه ولكن لست متأكدا إن كان هو..

صرخ المحقق فيه.. تطلع مرة أخرى.. تكرر الأمر وفي كل مرة كانت شكوك الشباب تزداد ويقينه يقل.. انتهى استجواب ذلك اليوم برجوعي للزنزانة.. لساني يلج بالدعاء وقلبي يقفز من فرح خفي.. تيقنت أنني قد كسبت الجولة الأولى”.

“.. في اليوم التالي استدعاني المحقق لغرفته.. سمح لي بالجلوس على مقعد.. ثم أخبرني.. أن قضيتي تافهة بالنسبة له.. وأنه لا يريد أن يضيع وقته معي لينتزع ما يريد من اعترافات.. فهناك قضايا أهم وأحق من أن تشغل وقته.. علت نبرة صوته وهو يقول.. أنا أستطيع أن أبقيك ضمن الحجز الإداري إلى ما شئت.. لكن سأمنحك فرصة رغم يقيني أنك مذنب.. أنت ستخرج من السجن ولكن لن تعيش مطلقا في الضفة الغربية.. إذا أردت الخروج من هذه الزنزانة فعليك أن توقع إقرارا بتنازلك عن حقك في العيش هنا، ولك أن تذهب إلى الأردن أو حيثما شئت.. سأمنحك حتى الغد لتقرر..

غني عن القول أن اللحظات التي تلت اللقاء كانت من أسوأ وأصعب ما مررت به.. كيف لي أن أتخلى عن حقي وأرضي ووطني؟.. ولكن في نفس الوقت.. ما هو البديل؟.. إلقاء في غياهب السجون صحبة التنكيل والأمراض والحرمان من الأسرة.. سألت الله أن يلهمني الرأي السديد وقررت أن أحاول قدر ما استطعت التفكير بمنطق وعقلانية.. وهذا ما كان”.

” سألت المحقق عند لقائي به في اليوم التالي.. لو اخترت الذهاب إلى بلد غير عربي.. هل تمنحوني فرصة التقدم للحصول على تأشيرة له.. ابتسم بخبث.. وقال… بلهجة تهكمية.. لماذا؟ ألا تريد أن تذهب إلى بلاد العرب أوطاني؟.. تجاهلت ما قال… وكنت في ليلة البارحة قد فكرت مليا وقلبت الخيارات المتاحة أمامي واستقر رأيي أن الأردن أو سوريا وهما الخياران المتاحان أمامي لن يتاح لي فيهما العيش الكريم أو جلب أسرتي.. فكرت طويلا.. ودعوت كثيرا.. فألهمني الله أن أفكر في نيكاراغوا.. حيث لي أبناء عمومة قد هاجروا منذ زمن.. وكنت على تواصل من قبل معهم واقترحوا علي المجيء أو الزيارة في السابق.. أريد الحصول على تأشيرة للذهاب إلى نيكاراغوا.. إذا ما أمنتم لي التأشيرة فسأوقع على الفور.. قلت للمحقق بهدوء ووضوح.

” تسارعت الأحداث بعد ذلك.. تحصلت لي السلطة الإسرائيلية على الفيزا وقام أهلي بشراء التذكرة لي، ولم يبق سوى أيام قلائل وأغادر هذا المكان القبيح.. طلبت منهم أن أزور بيتي وأودع أسرتي.. رفضت السلطات ذلك.. وبعد إلحاح مني وافقوا فقط على أن يزورني أحد من إخوتي في السجن.. لكن المغادرة إلى المطار ستكون من بوابة السجن.. وهذا ما تم”.

” وصلت مطار ماناغوا عاصمة نيكاراغوا في أمريكا الوسطى.. وكانت رحلة شاقة من الناحية النفسية.. أنا الخارج من السجن والتعذيب.. ورغم شعوري بقسوة الظلم وبأن من يحتل بلادي قد انتزعني من أرضي وأسرتي وجذوري… فعقدت العزم على كل ما مررت به وما سأمر به لن يفلح في انتزاع أرضي وأسرتي وجذوري مني.

” رحب أبناء عمومتي بي.. وشملوني بالعطف والكرم خصوصا أنهم على علم بما مررت به.. كانت حالتهم المالية ميسورة ولديهم محلات لبيع الملابس.. وللأمانة عاملوني بكرم وشملوني برعاية مميزة… لكني ما لبثت أن أحسست بالضيق.. فأنا لم أعتد أن أكون ضيفا على أحد.. وأكره البقاء من غير عمل.. ذهبت إلى كبيرهم بمتجره وقلت له يا ابن عمي.. أنا ممتن جدا من معاملتكم لي ولكني أود أن أعمل.. حاول أن يثنيني عن رأيي.. ويبرر حاجتي للنقاهة والراحة ولكني أصررت… وقلت له.. أنا لا أريد أن أثقل عليكم ولا أطلب وظيفة لديكم الآن.. كل ما أطلبه هو أن تمنحوني بعض الملابس والتي سأقوم ببيعها تجولا.. ذلك سيمنحني الفرصة لمعرفة البلاد والسكان واللغة.. على أن تكون دينا في عنقي.. أرده لكم …. ”

” … ذات صباح.. توكلت على الحي الذي لا يموت… وأخذت حقيبة الملابس.. بها لوازم أطفال وملابس خفيفة وداخلية.. وقررت أن أطرق أبواب الأحياء الشعبية لعلي أبيع لربات البيوت.. وكان المشهد غاية في الغرابة.. لوكنت تراقبنا آنذاك لانفجرت من الضحك.. أدق أبواب البيوت واقفا أمامها لتخرج إحدى السيدات.. فأفتح الشنطة أمامها وأخاطبها بلهجتي الفلسطينية.. أستجدي عطفها.. وأحاول أن ألح عليها لتقبل… الناس هناك رغم فقرهم طيبون.. تعاطفوا معي.. وبدأت شيئا فشيئا ألتقط مفردات اللغة.. الألوان.. الأرقام.. الأحجام.. تعال في الغد.. وهكذا.. تذكرت ما كان يقوله لي أبناء العم أن فرص العيش مذهلة في أمريكا الوسطى.. الناس لا يميلون إلى التجارة ويحبون الوظائف.. كما أن النساء يحببن الاقتناء والشراء.. كل حسب استطاعته..

لا أطيل الحديث عليك.. بعد فترة وجيزة تمكنت من دفع ديوني وشيئا فشيئا ازدهرت التجارة معي.. حتى أمنت لنفسي عربة أتنقل بها.. ولم تمض فترة حتى كنت قد وفرت ما يكفي لشراء سيارة مستعملة اشتركت فيها مع أحد الشباب ليعمل سائقا عليها.. بقيت في مناجوا عدة سنوات… أتقنت اللغة الإسبانية.. وأصبحت أدير عددا من سيارات التاكسي وأعمل في تجارة الملابس.. أحسست بأن الله قد أنعم علي وأن الأمور تسير على ما يرام حتى كان ذلك اليوم الثاني والعشرين من ديسمبر عام 1972″.

” … لا يمكن وصف الزلزال لمن لم يمر به.. ربما هو أحد أقرب الأشياء ليوم القيامة.. في الزلزال ترى الأرض تخرج أثقالها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى.. تجربة مريعة دمرت جزءا كبيرا من العاصمة.. آلاف الناس ماتوا ومائات الآلاف تشردوا وصاروا بلا مأوى.. تغيرت المدينة.. الحزن في كل الوجوه.. والبؤس في كل شارع.. والقلق من القادم يلقي بثقله على أكتاف الجميع.. حزنت من أجل المدينة وأهلها الطيبين.. لكن عقلي الصارم أخبرني أن بقائي هنا صار معدودا.. وأن وجهة جديدة تكتب لي”..

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى