الرئيسيةالراي

رأي- تهورات دستورية على شفا هاوية سياسية

* أنس أبوشعالة،

بالإشارة إلى قرار الجمعية العمومية للمحكمة العليا بشأن إعادة تفعيل الدائرة الدستورية، و نظراً لتداول هذا الخبر بمناظير متعددة ومختلفة، ومحاولة كل طرف لتسخيره سياسياً ومصلحياً، سأحاول في هذا المنشور المتواضع تبيين بعض النقاط الجوهرية لعلها تكون مرشداً ودليلاً لغير المتخصصين في فهم ما جرى وما يجري وما سيجري بالخصوص …

أولاً/ الرقابة القضائية على القوانين من حيث سلامتها دستورياً تنعقد للمحكمة العليا بدوائرها المجتمعة، أي مجموع قضاة المحكمة العليا “مستشاري المحكمة العليا” وهذا الاختصاص مقرر للمحكمة العليا بقوة القانون، ولا تمتلك تعطيله أو إيقافه وإلا كانت منكرة للعدالة مستبدة بسلطانها دون سند، وتسقط عنها الحجة والولاية إذا ما امتنعت عن إعمال اختصاصاتها والاستجابة لدعاوى المتقاضين .

ثانياً/ قرار المحكمة حسب ما تلاه رئيس المحكمة الموقر كان نصاً “إعادة تفعيل الدائرة الدستورية” وبمفهوم المخالفة يستوجب الاستفهام عن أسباب تعطيل ما تم تفعيله، وهل للتعطيل سند من قانون أو دستور أم أن التعطيل كان مبنياً على فقه الواقع وانطلاقاً من القاعدة الأصولية التي تنص على أن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، بمعنى أن التصدي للطعون الدستورية وإن كان محققاً لمصلحة إعمال القانون والدستور إلا أن هذه المصلحة ستترتب عليها مفاسد أعظم وأفدح قد تنقسم بها البلاد وتهلك بسببها العباد وتنتشر الفوضى وتنهار الدولة وتضيع مصالح عليا، مراعاتها أوجب وأولى شرعاً وعقلاً، وأزعم أن هذه الأسباب هي التي كانت سند المحكمة العليا في تعطيل عمل الدائرة الدستورية، وإن راعينا المحكمة في حكمتها هذه علينا السؤال عن مدى زوال الموانع وقيام المبررات لتفعيلها درءًا لشبهة الهوى والمصلحة وتسييس القضاء وتفعيل اختصاصاته القضائية لترجيح كفة سياسية على أخرى، ونعوذ بالله من أن يهوى قضاؤنا الليبي في هذه الهاوية.

ثالثاً/ يردد الكثيرون عبارة استقلال القضاء. وهذه العبارة بقدر وجاهتها وضرورتها وسموها بقدر انحراف تعريفها وتوظيفها واستغلالها في غير مناطها، فالقضاء سلطة من سلطات الدولة، وهذه السلطة لا تقضي بهواها ولا بقناعة قضاتها و عقيدتهم الفكرية “الإنسانية” وإنما هي سلطة تحكم بما هي ملزمة بتطبيقه من تشريعات وقوانين، فالقاضي يكتسب صفة القاضي بقوة القانون وتُنزع عنه الولاية بموجب القانون، ويساءل ويؤدب ويحال للتحقيق والتقاعد بل ويحاكم ويسجن متى أخطأ وانحرف بموجب القانون، وهذا يعني أن القضاء ليس سلطانا يشرع ويحكم بل سلطة تقضي بما شُرّع لها من تشريعات وقوانين من السلطة التشريعية، والقضاء لا يدير شؤون الدولة ولا يملك ذلك، بل يحظر عليه ممارسة العمل السياسي والتنفيذي، كون ذلك من اختصاص السلطة التنفيذية، ومن ثم فإن استقلال القضاء مبدأ وحجة للقضاء وعليه، إذ لا تملك سلطة أن تمارس عمل القضاء أو تؤثر فيه، وكذلك القضاء لا يملك ممارسة التشريع أو السمو عن القوانين أو التداخل في شؤون الحكم والسياسة؛ لأن ذلك خارج اختصاصاته وسلطانه.

رابعاً/ رغم مُقتي لشخصنة الأمور وتحليلها بمنظور شخصي إلا أنني ملزم بالقول بأن الأستاذ المحترم محمد الحافي من القضاة المحترمين والذين يتسمون بدماثة الخلق واستقامة المسلك، وهو نظيف اليد عفيف اللسان وقور في حضوره مؤدب في تعامله، ولعل بعض الأطراف السياسية استغلت هذه المناقب للأستاذ المستشار وأزاغت عينيه عن سدة السلطة القضائية وأغوته بتولي رئاسة السلطة التنفيذية، وغررت به للترشح في سباق الرئاسة الذي جرى في ملتقى الحوار السياسي في جنيف، وهو محفل سياسي بامتياز ليس فيه أساس من دستور وقانون، وإنما تحكمه قوانين السياسة والأمر الواقع، وقد قام الأستاذ المستشار المحترم محمد الحافي وهو رئيس للمحكمة العليا والمجلس الأعلى للقضاء “حينها”  بعرض نفسه على لجنة ال 75 وقدم عرضه وطرحه التنفيذي والسياسي وما للسياسة من استقطابات وولاءات وانحياز للمؤيدين وتربص ومكر بالمعارضين، وجمع الأصوات واسترضاء المتأرجحين الذين هم لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وربما من ضمن الأدوات السياسية الليبية للترويج السياسي إقامة المآدب وتعظيم حجم اللحم “على المفاصل” وبناء تلال وهضاب من الحلويات الشرقية و جبال من الفواكه الاستوائية، وإطلاق الوعود بالمناصب والمغانم، وكل ذلك مُباح وجائز في مجال السلطة التنفيذية وممارسة السياسة ولكنه محظور وممجوج و منبوذ ومرفوض في أدبيات ونواميس العمل القضائي، والأدهى والأمر أن نتيجة الترشح كانت الفشل، وقيل له لا نراك صالحاً في رأينا ولا نعطيك ثقتنا ولا صوتنا، وفازت قائمة أخرى وصار الأستاذ المستشار الوقور المُهاب صاحب الشرف والعفاف بما أتاه الله من سلطان وشرفه بشرف القضاء مخذولا سياسياً مما أثر على مكانته قضائياً، وصارت كافة قراراته وإجراءاته محلاً للطعن والتشكيك والتأويل بشبهة الانحياز السياسي، وسند ذلك أنه مارس اللعبة السياسية وكان منافساً فيها بين مجموعة من المتنافسين، فكيف يرتضي خصمك في السياسة بأن تكون أنت الحكم والقاضي عليه في محراب القضاء، وهذه طامة هامة تدركها الخاصة والعامة.

خامساً/ هناك عبارة مأثورة وحكمة معلومة تقول (من لا يفقه في غير القانون لا يفقه في القانون) بمعنى أن الفقه في النصوص القانونية والسوابق القضائية دون الفقه في العلوم الإنسانية والشرعية والتاريخ ومقاصد التشريع وأصول الفقه والاتسام بالحكمة والموضوعية وتقدير الأمور بموازين المصالح والمفاسد قد ينتج عنه أحكاماً قضائية موافقة للقانون منفصمة عن الواقع، فلا يكون نتاج تلك الأحكام إلا تمكين اللئام من ذئاب السياسة للقفز على هيبة القضاء الليبي والنيل من وقاره وهيبته والمساس بولايته المقدسة، فالأصل الشرعي أن الحكم لله والقاضي في الدنيا يستمد ولايته في الحكم من رب العالمين، فلا يجوز لمن يمارس سلطة عن رب العالمين أن يرضى الدنية في هذه الأمانة، وتعريضها للمزايدة والمضاربة في سوق النخاسة السياسية، ولعلي آتيكم بأمثلة لما قد يُصار واقعياً في حال صدور أحكام دستورية بعدم شرعية اتفاق الصخيرات وما ترتب عنه من إجراءات وأعمال وقرارات، ومن ثم يكون مجلس الدولة معدوم الوجود وكل ما ترتب عن حكومة السراج معدوم، وكذلك ما حصل في جنيف، إذ أن لجنة ال 75 ليس لها أي سند دستوري أو قانوني “رغم مشاركة رئيس المحكمة العليا في منافساتها”، ومن ثم فإن حكومة الوحدة الوطنية ومجلسها الرئيس يكونان في حكم العدم، كما أنه قد يقول قائل بأن مدة ولاية مجلس النواب منتهية، ومن ثم فإن كافة التشريعات والقوانين والقرارات في حكم العدم، وقد يطعن طاعن في ولاية رئيس المحكمة العليا أيضاً باعتباره معين من المؤتمر الوطني العام وأدى اليمين أمام رئيس المؤتمر بعد انعقاد الولاية التشريعية لمجلس النواب الذي لا زال يمارس أعماله، ولا زال يُخاطب من المحكمة العليا والمجلس الأعلى للقضاء إلى يومنا هذا، وتصير السلطات القضائية والحال كذلك منفصمة عن ذاتها وعن واقعها، فهي تراسل وتخاطب سلطات بصفاتها، وتحكم تارة أخرى بانعدام وجود تلك السلطات، وفي حال انعدام كل السلطات تكون مؤسسة الدولة الليبية عدم يقوم على خواء، ولن يكون ثمة سلطة تمتلك الشرعية ويُصار إلى شرعية الفوضى والقوة والغلبة، التي قد تؤدي إلى انشطار الوطن وانعدام وجود الدولة، بما فيها السلطة القضائية التي ستكون عارية عن أي منظومة رسمية، وهي التي قضت بانعدام تلك المنظومة، ويكون القضاء الليبي حينها قاتلاً للدولة مهدراً لمصلحة الوطن الليبي وجودياً، مشعلاً لفتيل الحروب وإعلاء منطق القوة الفعلية، وتكون حينها القوة هي الشرعية والمشروعية، وتكون الفوضى هي القانون والدستور وكان سعيكم مشكورا.

الخلاصة،، القضاء الليبي يجب أن يُعامل بمزيد من الاحترام والتقدير، وعلى كافة السلطات مراعاة القضاء الليبي وعدم تجاهله والتعالي عليه في معالجة شؤونه التنظيمية والتشريعية، ويجب الحذر من غضبة القضاء الذي لو ثأر لكرامته وكيانه سيكون وبالاً على الجميع بلا استثناء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* محامي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى