عيون

بمناسبة اجتماع البرلمان التركي لإقرار التدخل العسكري في ليبيا..

 

 

 

 

* كتب/ عبده فايد

 

هناك ثلاث دوائر، دولية، متوسطية، وإقليمية، يجب إدراكها للوقوف علي كيفية تداعي الوضع الليبي إلي تلك النقطة الحرجة، ومحاولة استشراف المسارات المعقّدة حال وصول الحرب الأهلية الليبية لنقطة الصدام العلني بين الفواعل الإقليميين والدوليين..

أول تلك الدوائر هي الدائرة الدولية، وأول أقطابها وأكثرها تأثيرًا هو روسيا.. موسكو لديها علاقات قديمة مع ليبيا منذ الإتحاد السوفياتي، تحديدًا منذ منتصف السبعينات حينما وقّع القذافي اتفاقًا لاستيراد ما قيمته مليار $ من السلاح السوفياتي، واشترطت موسكو وجود خبراء سوفييت لتدريب نظرائهم الليبيين علي استخدامه، فكان أن تدفق 11 ألف خبير سوفياتي حتي منتصف التسعينات إلي ليبيا، واستمرت العلاقات في النمو، حد أن بوتين وقّع جملة من الاتفاقات الاقتصادية ناهزت ال 10 مليار $ مع القذافي في 2008، وتلا ذلك اتفاق لتوريد السلاح بما يُقارب 1,8 مليار$، لكن المصالح الروسية في ليبيا تعرّضت للخطر بعد قيادة الناتو حملة عسكرية لإسقاط القذافي، إلي أن تبدّل الوضع نسبيًا منذ أن أطلق خليفة حفتر ما يُسمي عملية الكرامة الوطنية.. العلاقات بين موسكو وحفتر كانت غير واضحة المعالم في بادئ الأمر.. في فترة الضباب الأولية أعلنت موسكو استعدادها لتوريد السلاح للحكومة المُعترف بها شرعيًا، ثم انقضت سنة إلي حين التقي حفتر بسكرتير مجلس الامن القومي الروسي نيكولاي بارتوشيف، ثم زار حفتر المدمرة الروسية الأدميرال كوزنيستوف وهاتف عبر الفيديو وزير الدفاع الروسي شويجو، وهنا بدأ الخطابان الروسي والشرق ليبي إيجاد نقاط تفاهم إعلامية أكبر بالحديث عن مكافحة مشتركة للإرهاب، وفي الخفاء كانت الإشاعات تسري بضمان حفتر قاعدة عسكرية روسية دائمة في بنغازي مقابل الحصول علي مساعدة عسكرية حاسمة للسيطرة علي كامل الأرض.. وهنا يُمكن العودة لإصدار Atlantic Council تحت عنوان Foreign Actors in Libya’s Crisis وتحديدًا الفصل الخامس ‘‘ Russia: Looking for a warm Sea‘‘.

هناك مصطلح يُعرف باسم ‘‘ Hybird Wrfare/ الحرب الهجينة‘‘ وستجد تفصيلأ لتعريفها في ورقة أندرو وادن الصادرة عن مؤسسة راند تحت عنوان ‘‘الحرب الهجينة في منطقة البلطيق: التهديدات والاستجابة المحتملة‘‘، بأنها ‘‘نشاطات خفيّة أو قابلة للإنكار، تدعمها قوة تقليدية أو نووية، ترمي للتأثير علي السياسة الداخلية للبلدان المستهدفة‘‘ وكان التطبيق الروسي الأبرز لها في أوكرانيا حينما تحركت قوات متمردة لا تحمل أي علامات تمييزية للاستيلاء علي المؤسسات الحكومية في الشرق والقرم، باتباع تكتيكات غير نظامية، وبعد أن دانت لها السيطرة، تدخّلت روسيا بصورة نظامية باعتبارها داعم/ متحدث بلسان الانفصاليين.. ربما استلهمت موسكو ذات التكنيكات في دعم معسكر شرق ليبيا، في البداية حرص علي النأي بالنفس، ثم تماهي في الخطاب الإعلامي، ثم دفعات من الأسلحة بدأ انكشاف أمرها في 2017 بالعثور علي طائرة ميج-23 في مطار الأبرق، ثم قوات خاصة روسية في سيدي براني في مصر كشفت رويترز عن تواجدها المنحصر في تقديم الدعم لمعسكر حفتر، ثم أخيرًا بوفود المرتزقة الروس من شركة فاجنر والتي تقاتل لجوار قوات حفتر.. روسيا إذن تدعم حليفها بصورة لا يمكن معها إدانتها دوليًا، ولتحقيق جملة واسعة من الأهداف التي تتجاوز مسألة مكافحة الإرهاب، وأولها الحصول علي موطأ قدم عسكري علي المياه المتوسطية بعد سوريا، وثانيًا تعزيز النفوذ الإقليمي في منطقة شمال إفريقيا، حيث تنضم ليبيا لمصر، ومن خلفهما الجزائر أحد أكبر مشتري السلاح الروسي، والثالث ضمان وجود جاز بروم في المشاريع الهيدروكربونية عقب إعادة بناء النموذج الليبي بقيادة حفتر، وبالتأكيد الحفاظ علي النفوذ الواسع للسلاح الروسي وفتح قنوات مشتريات أخري بعشرات المليارات.. حفتر بوابة روسيا للعودة للمشهد الليبي، وإعادة صيغة خريطة التحالفات في شمال إفريقيا، والتحول لنقطة ارتكاز في المساعي الروسية المحتملة لمقارعة الأقطاب الدولية النفوذ في إفريقيا جنوب الصحراء، وبدون حفتر ستفقد روسيا بوصلتها الوحيدة في الشأن الليبي.

المسلك الروسي أقلق الند الأميركي، واشنطن شاركت بحسم في إسقاط القذافي عسكريًا، لكنها تعرّضت لضربة علاقات عامة قاصمة عقب الهجوم علي السفارة الأميركية وإرداء سفيرها في بنغازي، وهو ما اضطر واشنطن للتراجع خطوتين إلي الوراء، لكن دون التخلي عن مهمتين استراتيجيتين أساسيتين، أولهما تأمين تدفق النفط الليبي للأسواق الدولية، وثانيها مكافحة الإرهاب سواء القاعدة في بلاد المغرب أو تنظيم داعش، واصطفت إلي جوار قوات البنيان المرصوص المدعومة من حكومة الوفاق في عملية سرت لطرد تنظيم داعش ونفّذت القيادة الأميركية لإفريقيا ‘‘أفريكوم‘‘ قرابة 450 طلعة جوية حاسمة ضد معسكرات داعش، لكن هذا التراجع الأميركي والاقتصار علي تأمين المهام الحيوية أفسح المجال للتقدم الروسي الناشئ، واستمر الوضع خلال عهد أوباما وحتي مجيء ترامب، الذي كان يُعتقد بأنه سيصطف بلا تردد إلي جوار قوات حفتر، لكن الممارسة العملية أثبتت عكس ذلك، ليس بالتأييد المُطلق للوفاق، بل التردد الحذر، الذي لا يكبح جماح حفتر، دون حسم الصراع ضده أو لصالحه، ففي حين تطالبه بوقف الهجوم علي طرابلس، فإنها تمنع بيانًا أمميًا يدينه بقصف مركز اللاجئين في تاجوراء، وفي حين تصر علي الوفاق كممثل لمخرجات التسوية السلمية، فإنها ترفض فض حظر السلاح وتمكينه من تعديّل منظومة الردع.. لكن واشنطن قلقة، والقلق يتزايد، من إمكانية حسم الصراع الليبي لصالح موسكو، وإن تصاعدت الأمور عسكريًا، فالموقف الأميركي -قياسًا علي الراهن- يبدو أقرب لحكومة الوفاق، ليس بدعمها، وإنما بتسيير أعمال حلفائها الإقليميين، وعرقلة سيادة حفتر المطلقة دون هزيمته.. إبقاء الوضع الميداني بصيغة الاشتباك الحالية يبدو أقل الحلول الاميركية كلفةً.. ولقراءة تفسيرية أخري للموقف الأميركي يُمكنك العودة إلي الورقة الصادرة عن المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية تحت عنوان ‘‘ Libya’s global civil war‘‘.

من خلف الدائرة الدولية تبرز الدائرة المتوسطية.. أوروبا التي تنشط بثلاث دول أساسية في الشأن الليبي (فرنسا/ إيطاليا/ ألمانيا)..الدول الثلاث تتقاسم همًا أساسيًا وهو الهجرة من ليبيا إلي إيطاليا/ مالطا عبر البحر المتوسط أو ما يُعرف بالطريق المركزي للمتوسط.. في مارس 2016 توصل الإتحاد الأوروبي لاتفاق مع أنقرة يقضي بغلق طريق شرق المتوسط أمام اللاجئين السوريين مقابل حصول أنقرة علي 6 مليار يورو لمساعدتها في إيواء النازحين إليها، ومن ثم تيسير شروط تحرير المواطنين الأتراك من فيزا الشنجن، وحصلت أنقرة علي المقابل الأول، أما الفيزا فقد تعثرت بعد محاولة الانقلاب الفاشلة والإجراءات التي طالت جماعة جولن، لكن كان ذلك المسار الاول فحسب الذي يتعيّن علي بروكسل إغلاقه، أما الثاني في ليبيا والذي تدّفق منها زهاء 190 ألفًا في 2017 و2018 فقد ظلّ مصدر قلق أساسي، خصوصًا مع المسارات الانفرادية التي بدأت إيطاليا تنتهجها، مدعومة ببيئة محلية أفرزت تيارات اليمين المتطرف والشعبوي إلي قلب السلطة في تحالف النجوم الخمس والرابطة.. لكن مسألة الهجرة لم توحد الموقف بين الدول الثلاث تجاه الأطراف المتصارعة في ليبيا.. فرنسا ظاهرًيا تماهت مع الموقف الأوروبي بالدعوة إلي مؤتمر بين الفرقاء الليبيين في باريس عام 2017، ومحاولة التوصل إلي اتفاق ينظم عملية سياسية ودستورية، لكنها ميدانيًا كانت تنحاز بوضوح إلي جانب قوات حفتر، سواء بتوفير الغطاء الأممي، أو مزاعم وجود مدربين فرنسيين عسكريين، ربما كشفتها عملية مقتل 3 جنود فرنسيين في تحطم مروحية في ليبيا، وهي هنا تبحث عن رجل قوي ممثل في حفتر، يتماهى مع الإستراتيجية الفرنسية في تطويق تمدد الجماعات الإرهابية في مالي وبوركينا فاسو، ويضمن للشركات الفرنسية لاحقًا أدوارًا في عمليات التنمية، أما المقاربة الإيطالية فهي التعاون مع حكومة الوفاق التي وقّعت معها اتفاقًا في 2017 لمنع الهجرة غير الشرعية، مع تدريب خفر السواحل وتزويده بمعدات عسكرية، وتهدف في المقام الثاني للحفاظ علي النفوذ التقليدي ل ‘‘إيني‘‘ في السوق الهيدروكربونية الليبية، والذي ركيزته مشروع الدفق الأخضر الذي بّنته مناصفة مع المؤسسة الوطنية للنفط إبان عهد القذافي، والذي يضمن تمرير الغاز من الجنوب الغربي الليبي إلي صقلية ومنه لأوروبا، وهو ما يتيح موقعًا وإن كان ضئيلًا لإيطاليا في خريطة أوروبا الطاقوية المائلة بشكل بالغ لصالح موسكو.. أما ألمانيا فهي تفتقد للأدوات العسكرية والاقتصادية، ولا تمتلك سوي الورقة الدبلوماسية الجيّدة (مؤتمر برلين) والمنطلقة من نتائج اتفاق الصخيرات، لكن برلين لا تمتلك أدوات الإنفاذ، بقدر ما يتوقف وضعها كوسيط تفاوضي، علي إرادات الأطراف المتقاتلة وداعميهم الدوليين، وهنا يُمكن العودة لماتيو إلورادو ‘‘ The Rivalry between France and Italy over Libya‘‘.

ثم تأتي الحلقة الأقرب جغرافيًا، تونس والجزائر ومصر.. تونس والجزائر يتقاسمان ذات الهم المشترك.. القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، تونس تعلم أن منفذي هجمات 2015 انطلقوا تدريبًا وعبورًا من ليبيا، والجزائر تدرك أنها ليست بمنأى عن الهجمات أو إعادة تشكيل الخلايا الساكنة، لكن رد فعل الطرفين لم يندفع للعب دور حاسم في التسوية، تونس لأنها دولة متواضعة القيمة جيوبوليتيكيًا، ومن هنا اختارت النأي بالنفس مع تشييد جدار حدودي يخضع لسيطرة عسكرية علي طول الحدود المشتركة مع ليبيا، أما الجزائر الأكثر ميلًا للانكفاء علي الداخل، فقد توارت وراء جهود الوساطة الدولية، دون أن ينعكس الميزان النفطي/ الجغرافي الهائل علي التأثير علي موازين الصراع.. مصر علي النقيض تمامًا، وهنا يُمكن تمييز موقفها تجاه ليبيا علي مستويين: الإستراتيجي المتجاوز، والسياسي المرحلي.. وليس هناك أنسب من العودة للدكتور جمال حمدان في موسوعة ‘‘شخصية مصر‘‘ تحديدًا المجلد الثاني، وبالأخص الفصل الخامس والعشرين ‘‘شخصية مصر الاستراتيجية‘‘.. مجال النفوذ الخارجي المصري في أكثر فتراته عنفوانية عبر دورات التاريخ، امتد إلي دائرتين، داخلية أو خارجية، نواة أو شرنقة، ظل وشبه ظل، أما الخارجية والتي كان التفاعل معها أقل، فوصل فيها النفوذ المصري شمالًا إلي تخوم الفرات وأرمينيا وحواف الأناضول، وشرقًا إلي نجد والجزيرة العربية، وجنوبًا إلي شمال السودان بالأساس ومن بعده خط الاستواء والصومال، وغربًا إلي طرابلس متجاوزًا برقة، وبحرًا امتدت لتشمل قبرص حينا وكريت أحيانًا.. أما الحلقة الداخلية الأقرب والأكثر كثافة، فشملت الشام عمومًا وفلسطين خصوصًا، وغرب الجزيرة العربية في الحجار واليمن، وإقليم برقة غربًا والنوبة جنوبًا، وتلك كانت تاريخيًا مسارح لحروب مصر أو ملحقات الضم لولاية مصر الإسلامية.. هذه الدائرة الإستراتيجية الأوسع كانت محور الحركة المصرية البندولية في فترات الارتفاع والقيام، وغير قابلة للتنازل مهما اشتدت موجات الجزر السياسي ودورات الانحدار والسقوط منذ السبعينات إلي اللحظة الراهنة.. تاريخيًا واستراتيجيًا لا يُمكن لمصر الوقوف مكتوفة الأيدي تجاه أخص فضاءاتها الحيوية في ليبيا، هذا من ناحية المبدأ، لكن الكيفية هي التي يحددها شكل النظام السياسي، والجنرال السيسي حسم مصالحه ابتداءً وانتهاءً بـ ‘‘حفتر أولًا‘‘ ومنطلقاته في ذلك لا حاجة لتوضيحها في مناهضة حركات الإسلام السياسي، وحتمية خضوع ليبيا لسيطرة مركزية يمثلها جيش يترابط عضويًا مع مفاهيم العسكرية المصرية، ثم عين أخرى على ما قد توفره ليبيا مستقرة موالية لمصر من فرص اقتصادية هائلة، ولأن الفاتورة الاقتصادية لهكذا تدخل مرهقة علي الخزانة المصرية، فقد وجد الدعم الأمثل من حليفه الأيديولوجي الثري في أبو ظبي وبدرجة أقل كثيرًا الرياض.

ثم تأتي الآن تركيا لتكسر المعادلة السائدة ضمنيًا منذ ظهور حفتر للمشهد.. حظر دولي علي السلاح إلي ليبيا، مسموح لكل الأطراف بخرقه، سواء بالعتاد أو الرجال، دون أن تُعلن الأطراف الإقليمية والدولية اصطفافها صراحة، أو تجرف معادلة الحرب بالوكالة إلي التدخل العسكري المباشر.. الأتراك كغيرهم، وفروا دعمًا عسكريًا للوفاق وغطاءً إقليميًا، في سياق المعركة الأوسع بين معسكري (الدوحة/ أنقرة) و (القاهرة/أبو ظبي/الرياض) لكنها – مدفوعة برغبتها في الحصول علي قطعة من غاز شرق المتوسط- نقلت المشهد الليبي خطوة خطيرة للأمام، فهي بظهورها المباشر، تُحتم علي كافة الأطراف الأخرى استدعاء نفسها للمشهد دون مواربة، وهي بمستوي التسليح أو الدعم البشري واللوجستي، ستجبر الباقيين علي كسر أعنف للضوابط الهشة بحظر توريد السلاح، وتسوير الأزمة الليبية.. وهنا استشراف القادم يبدو شديد التعقيد.. هل الوجود العسكري التركي المقبل، بهدف الحفاظ علي معادلة الردع الحالية؟، أم أنها تحمل في مخيالها طموحًا إلي محاولة فرض الوفاق سيطرته العسكرية التامة علي ليبيا؟، وإن حدث فما هي أدواته -بخلاف المرتزقة السوريين وهي قضية هامشية- العسكرية؟.. منظومات دفاع جوي تقف سدًا أمام طيران حفتر المتقدم نسبيًا؟ أو دعم جوي بطائرات مقاتلة تستهدف قوات حفتر البرية؟ وكيف سترد القاهرة وقد أعلن الجنرال السيسي مركزية ليبيا والسودان للأمن القومي المصري وعدم السماح لقوة ثالثة بالسيطرة عليهما؟ دعم مباشر بهجمات للطيران المصري، أم عمليات نوعية ضد خطوط الإمداد التركية، أم دعم أوسع بالعتاد البري والخبراء العسكريين؟ وما هو سقف التحرك المسموح لكلا الطرفين؟

يخطئ من يظن أن الأتراك والمصريين لديهم حرية التصرف بمعزل عن إرادة القوي الكبري، صحيح الجيشان علي رتبة عالية من التصنيف، لكن القاهرة وأنقرة في الأخير هما قوتان إقليميتان في صراع يبدو وثيق الصلة بأطراف دولية وازنة من فرنسا وإيطاليا وأميركا وروسيا، والسؤال الأكثر إلحاحًا، كيف سيتبلور رد فعل القوي الكبري، الروس والفرنسيين المصطفين لجوار القاهرة، والإيطاليين الداعمين للوفاق ومن خلفهم واشنطن الحذرة؟ هل ستعلن موسكو عن نفسها في الخريطة العسكرية بدعم نظامي لحفتر يُكمل علي النمط الاوكراني معاير الحروب الهجينة؟ أم ستضمن بقرارات أممية هامش أوسع للحركة العسكرية المصرية؟ وهل تنحو إيطاليا لموقف الوساطة الألماني، أم تنخرط في دعم دبلوماسي ولوجستي للوفاق وحلفائه الأتراك؟ وكيف ستعبر فرنسا عن مصالحها الجيوستراتيجية في ظل الضغوط العسكرية من مسرح عملياتها في الجغرافيا القريبة من ليبيا (مالي/ تشاد/ بوركينا)..هذه أسئلة أعقد من أن يُجاب عليها راهنًا، وهي خاضعة لحجم التدخل العسكري التركي المُرتقب.

لكن ما يُمكن الاقتراب منه بالجزم.. أن دخول الحرب الليبية ساحة الصدام بين الفواعل الإقليميين والدوليين لن يعني سوى تحولها لسوريا أخرى، بكل ما قد يحمله ذلك من مخاطر جمّة علي الجميع، الجوار المصري والتونسي والجزائري، سواء الأخطار الجيوستراتيجية بولوج الأتراك إلي الفضاء الحيوي، أو الارتدادات الانعكاسية على الحدود بنشاط أوسع للجماعات الإرهابية، وعلي الضفة الأوروبية من المتوسط من انفلات عقال الهجرة من إفريقيا جنوب الصحراء، وكذلك علي سوق الطاقة الدولي.. وثانيًا أن هذا الصراع يبدو حسمه بالأدوات العسكرية بعيد المنال، لا الأتراك بمفردهم قادرون علي إنهائه، مهما ضخوا من عتاد عسكري، الجغرافيا السياسية هنا تخونهم بالكامل، ولا القاهرة المتاخمة بترسانتها العسكرية، قادرة علي الانجرار لما هو أبعد من الاستمرار في حروب الوكالة التي تضمن لحفتر مواقعه، بعيدًا عن استدعاء شامل لقوتها، سيدفع بها لوحل هي نفسها سبقت وتجنبته في سوريا، وواشنطن التي تنسحب تدريجيًا من شئون الشرق الأوسط ليست علي استعداد لخسارة جندي أميركي في ليبيا، والروس بالتأكيد سوف يستمرون في دعم حفتر عسكريًا، دون وجود أفق حالي لإمكانية تكرار تدخلهم علي النمط السوري، وترجيح كاسح لكفة الجنرال حفتر، وكلاهما روما وباريس لن يتجاوزا الموقف الانتهازي الراهن، لحد الصدام العلني بفتح مخازن أسلحتهم أمام حلفائهم، بما قد ينقل الصدام السياسي لبروكسل، التي لا تحتاج ملفات إضافية للبريكست ومستويات البطالة والتقشف في الجنوب وقضية الديون وإعادة الهيكلة المالية، والأهم بما ‘‘يُسيّل‘‘ الصراع، ويدفع بالعتاد إلي جماعات فرعية متشظّية من الصراع للأم، فتدفع أوروبا الثمن الارتدادي.

إن بدء التصعيد سيكون استنزافًا للجميع، وسيجد الكافة أنفسهم في ذات الموقع الأول بعد خسائر جمّة.. طاولة مفاوضات ربما يتقدّم فيها هذا الطرف أو ذاك إنشًا بفعل مكتسباته الميدانية، لكنه لن يرفع رايته وحيدًا.. واسألوا اللبنانيين بعد 15 عامًا من القتال المموّل إقليميًا ودوليًا، كيف انتهوا إلي لوزان وجنيف والطائف؟ ولا حاجة لسؤال السوريين عن مخرجات الحرب الأهلية الدائرة.. ليبيا أكبر من النفط، ليبيا صراع جيوبوليتيك بالأساس، هي مفتاح شمال إفريقيا، وإفريقيا جنوب الصحراء، والمتاخمة المتوسطية في حقول الغاز، وحلقة أخري وربما أخيرة للحرب الباردة العربية، وإن كانت الحرب هي امتداد للسياسة بأدوات عنيفة، كما يقول كلاوسفيتز، فالأمل ألا يحتاج الليبيون وقتًا طويلًا بين رحاها، ليعيدوا استكمال السياسة بأدواتها السلمية، دون الانجراف لخدمة المصالح الإقليمية والدولية.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى