اقتصادالرئيسية

رأي- ليبيا في جولة صراع على الثروة

 

مع تعثر الخروج من المرحلة الانتقالية واستمرار الخلاف بشأن الانتخابات، دخل الليبيون في مشكلة أخرى، عندما تصدّر موضوع إدارة الثروة النفطية واقتسامها الجدل السياسي بين الكيانات المختلفة.

* كتب/ خيري عمر،

وفي ظل نقص مناخ التنافس والانقسامات، يساعد نقص صلاحيات الحكومات القائمة في تقرير المستقبل السياسي لمسألة الثروة في غياب نسق دستوري ينظّم التعامل مع الموارد الوطنية. تعمل هذه الظروف على تطوير أشكال أخرى للصراع الاقتصادي والاجتماعي، من شأنها توسيع نطاق النزاع السياسي.
ولتنظيم أُطر التعامل على الثروة الوطنية، ذهبت الأطراف المختلفة إلى تكوين كيانات إدارية ومالية للرقابة على الإيرادات والنفقات العامة؛ فعلى مدى ما يقرب من عام، صدرت ثلاثة قرارات لإدارة قطاع النفط والغاز وتوزيع إيراداته والإشراف مالية الدولة. أصدرت حكومة الوحدة الوطنية القرار رقم 790، سبتمبر 2022، لإنشاء “المجلس الأعلى لشؤون الطاقة” للإشراف على قطاع الطاقة. وحسب المادة 3، يضم المجلس، بجانب رئيس الوزراء، تسعة أعضاء يمثلون؛ رئيس ديوان المحاسبة، محافظ مصرف ليبيا المركزي، ووزراء النفط والغاز، التخطيط، المالية، الاقتصاد والتجارة، بالإضافة إلى رئيس مجلس إدارة المؤسّسة الوطنية للنفط، الطاقة المتجدّدة والشركة العامة للكهرباء. ويمكن للمجلس إنشاء لجان فنية (مادة 4) من خارج نطاق الوزارات والهيئات القائمة، كما يسمح بالصرف على أنشطته من عائدات النفط (مادة 8)، بتحميل المؤسّسة الوطنية سداد مكافآت أعضائه واللجان التي يشكّلها والالتزامات الأخرى.
وفي وقت متقارب مع سلسلة قرارات أصدرتها حكومة الوحدة، اتّجه مجلس النواب إلى إصدار تشريعات بإنشاء عدة لجان مالية للرقابة على إيرادات النفط. وفي 5 نوفمبر 2022، تكونت اللجنة الأولى من 11 عضواً بهدف رفع مستوى التنمية في مناطق إنتاج وتصدير النفط. ولاحقاً، حاول رئيس المجلس النواب، عقيلة صالح، تطوير مشروعه في مقابلة مع قناة القاهرة الإخبارية، 16 يناير 2023، طرح رئيس المجلس تشكيل لجنة للإشراف على توزيع الثروة، بحيث تتكون من ممثلين عن مجلسي النواب والدولة والمجلس الرئاسي والمصرف المركزي، بالإضافة إلى لجنة أخرى لمراقبة الإنفاق الحكومي. وانتهى هذا المشوار بصدور القرار رقم 49 لعام 2023 بتشكيل لجنة برئاسة رئيس مؤسسة النفط، فرحات بن قدارة، تحت اسم “اللجنة المالية العليا” بجانب شاغلي مناصب سيادية في الحكومتين، بالإضافة إلى خبراء في المالية العامة وستة نواب من لجنتي المالية والطاقة بمجلس النواب.

وتختص لجنة المالية العليا، في شكلها المعلن أخيراً، بإعادة هيكلة الميزانية العامة لتحقيق التوازن الاقتصادي والاجتماعي، وذلك باستقطاع حصة كل حكومة مباشرة من إيرادات النفط والغاز، ويتم إيداع كلٍ منها في حساب الحكومتين بفرعي المصرف المركزي في طرابلس وبنغازي، بالإضافة للرقابة على النفقات في البابين الثاني والثالث من الميزانية العامة.
وأصدر المجلس الرئاسي القرار رقم 18 لسنة 2023، 6 يوليو الجاري، تشكيل لجنة مالية عليا (مادة 2)، برئاسة رئيس المجلس الرئاسي، وتضم رئيس المؤسسة الوطنية للنفط إلى جانب 16 عضواً.  ووفق المجلس الرئاسي، تختص اللجنة بمتابعة الإيرادات العامة وكفاءة تحصيلها ومتابعة الإنفاق الحكومي لتحقيق الشفافية والعدالة، وليس السعي لمعالجة جذرية لمشكلات تفاوت الدخل، فهو أقرب إلى ضمانات توزيع الدخل. ويتسم قرار الرئاسي بالبساطة، فهو يتكلم في عموميات عن تشكيل اللجنة ووظائفها، ولم يشر لكيفية عملها بين أجهزة الدولة، لكنه على خلاف قراري حكومة الوحدة ومجلس النواب، ينحصر نطاقها في المرحلة الانتقالية.
ورغم تعدّد الجهات المنشئة للجان، فإنها تحمل خصائص مشتركة؛ فمن ناحية التشكيل، تتداخل الوظائف الرقابية والتنفيذية، بشكلٍ يُضعف مبدأ المحاسبة والمراجعة. فمن جهة، يحدّ دخول شاغلي الوظائف الرقابية في لجان عليا من استقلالية وظائفهم الأصلية. وفي هذا السياق، تعكس مشاركة رئيس المؤسّسة الوطنية في كل اللجان المقترحة فجوة النفوذ مقارنة بالجهات الأخرى وبقدر يكشف عن هشاشة السياسة الليبية وصعوبة تحرك الأطراف الليبية بعيداً عن مصادر الإيرادات.
وبجانب مشكلة تفاوت النفوذ، تستند التشريعات الليبية إلى مرجعيتين مختلفتين، وبينما ترتكز قرارات مجلس النواب على الإعلان الدستوري وتعديلاته فقط، يعتبر المجلس الرئاسي ومجلس الوزراء الاتفاق السياسي من التشريعات السارية. ينعكس هذا الخلاف على طبيعة العلاقة بين جهتي التشريع؛ ففي بعض الحالات، يتجنب رئيس مجلس النواب الاعتراف بنتائج محادثات مع المجلس الأعلى للدولة واعتبار استشارته غير ملزمة إجرائياً، وهنا، يوفر سوء المناخ التشريعي بيئة خصبة للصراع وتنازع الاختصاص، وخصوصاً مع تداخل صلاحيات كل من مجلس النواب، مجلس الوزراء والمجلس الرئاسي؛ فليس من المناسب تناول الوضع في ليبيا من منظور تكامل السلطات أو الفصل بينها.

وعلى الرغم من القصور الوظيفي، تعكس إثارة الخلاف بشأن الثروة حرص كل جهة على تمديد سلطتها خارج نطاق سيطرتها الفعلية للاستحواذ على الثروة والدخل الوطني. ويعكس التسارع على تكوين مجلس الطاقة ولجنتي المالية العليا جوانب الصراع على الموارد. وبينما سبقت حكومة الوحدة في احتكار إدارة قطاع الطاقة، ظهرت توجهات مجلس النواب والمتنفذين في شرق ليبيا لبسط السيطرة على ثروات الإقليم. من جهة، هدّد رئيس الحكومة المكلف في شرق ليبيا، أسامة حمّاد، في 24 يونيو 2023 بالحجز الإداري على إيرادات النفط من بداية 2022 والبالغة 27 مليار دولار تقريباً. ويتساند هذا التوجه مع تهديد حفتر بوقف تصدير النفط مع نهاية أغسطس المقبل، إذا تعذر تشكيل اللجنة المالية العليا، ويكشف صدور حكم من محكمة اجدابيا بتجميد إيرادات النفط في البنوك الليبية عن تحرّكات سريعة لبدء النزاع على الثروة.
وفضلاً عن القيود القانونية والسياسية لتوزيع الثروة، تعاني ليبيا من اختلاف التوزيع الجغرافي للموارد وكثافة السكان. ولذلك، لا تبدو السيطرة المكانية والمحلية مؤشّراً على تقدير الحصة المقتطعة لأي من الحكومتين، وهو ما يتطلب وضع معايير محايدة لنصيب الفرد من الدخل الوطني، مصحوباً بهيئة إدارية قوية.

ويضفي تماسك السلطة ملمحاً آخر على ترجيح حالة الصراع على التسوية السياسية، فمع تعدّد دوائر النفوذ في المنطقة الغربية، تفقد حكومة الوحدة قدرتها على حشد المكونات السياسية خلف سياستها. وثمّة مؤشّرات إلى أن الحكومة لا تتمتع بالسيطرة الكافية، يأتي في مقدمتها اختلاف توجّه المجموعات العسكرية وتململ الأحزاب من تأخير الانتخابات، بالإضافة إلى احتجاج مدن الجبل الغربي على خفض عدد مديريات الأمن. وعلى الوجه المقابل، يمكن ملاحظة تمكّن الجهات المتنفذة في شرق ليبيا من تطوير موقفها السياسي، وخصوصاً بعد تثبيت التعديل الدستوري 13 والاقتراب من تحقيق مطالبها في قانون الانتخابات، فيما يتعلق باستثناء العسكريين وازدواج الجنسية، كما اتّسع نفوذها بعد تعيين خمسة قضاة في المحكمة العليا. وفي هذا السياق، يمكن قراءة استبعاد فتحي باشاغا من الحكومة تعبيراً عن تأثير العوامل الجهوية في استبداله بآخر من المنطقة الشرقية، لتكون المجموعات السياسية أكثر تجانساً.

في الحالة الليبية، طالما ساهم تراخي المُتغيرات الخارجية عن دعم الانتقال السياسي في تنمية مناخٍ ملائمٍ للانقسامات. ولا يعمل تحيز الولايات المتحدة وسفراء بريطانيا، ألمانيا، إيطاليا وفرنسا للمجلس الرئاسي على تهدئة الصراع على الإيرادات العامة بقدر ما يوفر الحجج لوضع الشؤون المالية تحت الإشراف الدولي. وفي هذا السياق، ذهب جاك جيسون في مقال له بعنوان إنشاء لجنة مالية دولية هو الأمل الأخير لليبيا” (سبتمبر 2020)، إلى أن بقاء الموارد الاقتصادية محركاً دائماً للصراع، يؤدي لتدويل مالية ليبيا تحت إشراف الأمم المتحدة، كحلٍ أخير.
في أيّ حال، يلقى توجّه تدويل الشؤون المالية فرصة مع وجود عاملين، يتمثل الأول في غموض مفهوم مجلس النواب والمجلس الرئاسي للتوزيع العادل، سوى معيار تقسيمها على السكان وتمييز مناطق الإنتاج. وبينما خصص القانون 59 لسنة 2012 نسبة 10% للبلديات من الثروة المحلية، فقد تَضمّن مشروع الدستور الصادر في 2017 زيادة هذه النسبة. فيما يرتبط العامل الثاني بغياب الجهاز الإداري المتماسك في مقابل هيمنة تطلعات السيطرة على الموارد. ويُعدّ تبني مجلس النواب والمجلس الرئاسي مفهوم الحصص النسبية حسب عدد السكان تعبيراً عن طموح السيطرة على الموارد، وليس رغبة في التمهيد لمرحلة أخرى من الحلّ السياسي.
وبغض النظر عن اختلاف تأثير العوامل المختلفة، ليس من المرجّح تفاهم الأطراف الليبية على اعتبار تقاسم الثروة عملية مؤقتة؛ فبجانب عدم جاهزية الإطار القانوني وغياب الاتفاق على نظام الحكم، سوف تُفضي هذه العملية للصراع الاجتماعي حول إدارة الثروة الوطنية، وهي حالة تسعى فيها الجماعات المحلية إلى الحصول على حصتها، حسب تقديراتها، بحيلٍ مختلفة مستفيدة من ضعف الرغبة المشتركة، محلياً ودولياً، في الوصول إلى الانتخابات أو الحل السياسي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى