الرئيسيةالراي

رأي- تونس.. بين قانون التطبيع وجدل التمييع

* كتب/ خالد الجربوعي،

لا يمكن إنكار أن تونس اليوم قد تكون من أكثر الدول العربية تضامنا ودعما للشعب الفلسطيني ومقاومته شعبيا ورسميا، ومواقفها متقدمة على كثير من الدول العربية خاصة على الصعيد الرسمي حيث أعلن الرئيس التونسي “قيس سعيد” وبشكل مباشر دعمه للشعب الفلسطيني ومقاومته ورفضه لكل الحلول التي لا تعيد للشعب الفلسطيني حقه في أرضه من البحر إلى النهر وهو أمر أصبح خارج كل المعطيات لدى جل الدول العربية الأخرى..

“سعيد” انتقد ما يحدث من عدوان على قطاع غزة من قبل العدو الصهيوني دون تردد كما فعل غيره من حكام العرب، الذين إما أنهم صمتوا أو حاولوا إدانة الضحية كما أدانت المتهم ووضعت الاثنين في سلة واحدة..  حتى وصل الحل ببعض النخب التونسية إلى تشبيه “سعيد” بالزعيم العربي الوحيد حاليا، ومقارنته ببعض الزعماء الذين مروا على الدول العربية في سنوات سابقة خاصة في مواقفهم من القضية الفلسطينية، والذين رفعوا شعار التضامن مع فلسطين ومعاداة الصهاينة ورفضهم لكل الحلول الاستسلامية في حينه، وإن كانت في جلها تصريحات وشعارات نظرية وكلامية لا أكثر.. وهو ما يفعله الرئيس التونسي اليوم تماما.. إلى جانب ذلك يقوم الشعب التونسي بدور كبير في دعم فلسطين ورفض ما يحدث في غزة من عدوان ومجازر، يرتكبها العدو الصهيوني، حيث خرج الشعب التونسي في مظاهرات متتالية في كل الأوقات ليلية ونهارية، خاصة عند ارتكاب العدو الصهيوني لأي جريمة جديدة أو قصفه للمدنيين في المستشفيات وغيرها، رافعين شعارات التضامن مع فلسطين ومقاومتها، ورفضا لما يقوم به العدو الصهيوني من إجرام في حق الشعب الفلسطيني.. إضافة إلى تخصيص مساحات كبيرة لتغطية الأحداث في قطاع غزة عبر شاشات القنوات التونسية عامها وخاصها بشكل متواصل، عبر عديد البرامج اليومية والأسبوعية والتغطيات الخاصة بالأحداث.. كما تم إلغاء بعض المهرجانات الاحتفالية مثل مهرجان قرطاج السينمائي، الذي كان من المفترض أن يقام شهر أكتوبر الماضي، عكس دول أخرى، وغيرها من مواقف دعم وتضامن على كل الأصعدة ومن كل الأطراف التونسية الشعبية والرسمية.

لكن هناك أمر جعل هذا الموقف في حرج كبير، وهو موقف فرضه التونسيون على أنفسهم، وكان يمكن تجاوزه لو لم يفتح الأمر ويدخل ضمن عمليات الدعم والتضامن، وإن كان الأمر ليس بجديد فهو مطروح منذ سنوات، خاصة بعد متغيرات سنة 2011.. ألا وهو إصدار قانون لتجريم التطبيع مع العدو الصهيوني بشكل تام.. حيث تم إعداده هكذا ومحاولة عرضه في البرلمانات السابقة التي جاءت عقب تغير 2011 ولأكثر من مرة، ولكنه لم ينل حظه من المناقشة والمصادقة لأسباب مختلفة، حتى أصبح جزءا من تبادل التهم بين التونسيين.. خاصة من قبل من يصنفون على انهم من دعمي ومناصري منظومة “قيس سعيد” المستحدثة بعد 25 يوليو 2021 والتي رفعت شعار دعم فلسطين بقوة حتى أصبح بعض من مناصري الرئيس التونسي يضعون القضية الفلسطينية كإحدى وسائل المزايدة على خصومهم خاصة في موضوع قانون التطبيع وعدم المصدق عليه في البرلمانات السابقة.. ويتهمونهم بأنهم فشلوا في تمرير هذا القانون بسبب مصالحهم الخاصة وارتباطهم بدول تدعم العدو الصهيوني، الأمر الذي جعلهم لا يمررون مثل هذا القانون خشية على مصالحهم الحزبية والشخصية داخليا وخارجيا.

وأصبح هذا القانون جزءا من التهم الموجهة للجماعات والأحزاب وحتى الأفراد ممن تداولوا على السلطة طيلة السنوات الماضية، ولكل من كان في منظومة حكم ما قبل 25 يوليو.. بل وارتفعت أصوات هؤلاء منادية بضرورة إقرار القانون، خاصة بعد إعادة طرحه على البرلمان الجديد مع بداية الأحداث الأخيرة في قطاع غزة.. مؤكدة على ضرورة التصديق على هذا القانون ومروره دون تأخير، ليكون دعما لفلسطين ومقاومتها في مثل هذه الظروف التي تمر عليها، والعدوان الذي يتعرض له شعبها.. معلنة أن من يرفضه برلمانيا أو في أي موقع كان هو خائن وعميل وغيرها من تهم وجهت لكل من يمكن أن يعارض أو يمنع صدور قانون تجريم التطبيع في أسرع وقت ممكن، خاصة مع أول أيام الأحداث وبشكل غير مسبوق، وفعلا تم طرح القانون على البرلمان.. وهنا حدث ما لم يكن في الحسبان بعد أن ظن جل التونسيين أنه سيمر دون أي مماطلة أو تردد، وبالأجماع تقريبا حتى يخرج الجميع من تهم العمالة والخيانة وغيرها مما ترددت طيلة تلك الفترة.

لتأتي المفاجأة غير المتوقعة لدى الكثيرين، خاصة من تحمسوا لهذا القانون مع أول أيام العدوان الصهيوني على غزة، فكان العكس تماما ما حدث، حيث غابت الجهات التنفيذية التي أرد البرلمان التونسي أخذ رأيها والاستعانة به في إقرار مثل هكذا قانون، خاصة من قبل وزارتي العدل والخارجية اللتان لم تستجيبا لمطلب البرلمان.. فالأولى أعلنت أنها غير ذات اختصاص، والثانية لم تكلف نفسها حتى بالرد على طلب البرلمان أو تعلن موقفها من الأمر.. ليأتي يوم الفصل عندما تم طرح هذا القانون على جلسة عامة تم تحديدها في تاريخ مهم له علاقة بفلسطين، ألا وهو 2 نوفمبر، الذي يصادف يوم إعلان وعد بلفور المشؤم، والذي تم التزمت بريطانيا بتأييد إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين سنة 1917..

لكن ما حدث في الجلسة العلنية غير كل المشهد المنتظر، حيث رفض رئيس البرلمان التونسي تمريره بعد أن بدأ التصويت على مواده الأولى، قائلا إن رئيس الدولة غير موافق على مثل هذا القانون بعد أن جرى اتصال هاتفي بينهما لأسباب لم يوضحها.. الأمر الذي أوقف مناقشة القانون رغم التصويت على مادتين من مواده قبل إيقاف بقية التصويت من قبل رئيس البرلمان، بناء على تعليمات رئيس الدولة كما ذكر، وبقاء الجلسة المخصصة للموضوع مفتوحة كما ذكر بعض النواب.

وطبعا شهد موضوع هذا القانون الكثير من النقاش والجدال بين التونسيين في أهميته ومواده، ومدى تأثيرها على الدولة التونسية والتونسيين عامة في التعامل مع الآخرين إن تمت المصادقة على هكذا قانون قبل حدوث ما حدث في البرلمان، ليفتح باب الجدل والتبريرات، خاصة ممن يرفضون القانون عامة أو يرفضون صياغته المطروحة.. بل وارتفعت أصوات من كانوا يعارضون إصدار القانون من الأساس، لكنهم يخشون التصريح بذلك علنا قبل ذلك خشية اتهامهم بالخيانة والعمالة كما تم تسويقه عند بداية أحداث فلسطين وطرح القانون للتداول.. والأدهى من ذلك تغير مواقف كثيرين ممن كانوا يرفعون الصوت ويشددون على ضرورة تمرير القانون وإصداره بأي ثمن، خاصة من قبل من يدورون في فلك الرئيس التونسي.. ولكن عندما أعلن الرئيس موقفا مغايرا تغيرت مواقفهم 180 درجة، وخفتت صوتهم وأصبحوا يبررون ما حدث رغم أنهم كانوا يتهمون من قبلهم بالخيانة والعمالة، لأنهم رفضوا تمرير هكذا قانون في عهدهم قبل سنوات.. وهنا تتبين مواقف من يسيرون في ركب الحكام، والذين لا مبدأ ولا موقف لهم إلا حسب أهواء الحاكم لينقلبوا بين ليلة وضحاها، ويسقطوا كل حماسهم وأصواتهم المرتفعة قبل موقف الرئيس.

لتصبح كلمة الرئيس وموقفه هي الفيصل في الموضوع، لا رأي شعب ولا موقف برلمان تحول أصلا من سلطة تشريعية إلى وظيفة تنفذ ما يطلبه رئيس الدولة حسب دستوره الجديد.

ليصبح القانون الذي أراد له الكثيرون المرور بداية إلى محل نقاش وجدل لا يغني ولا يسمن من جوع، بعد أن قال الحاكم الأوحد كلمته وعلى الجميع الرضوخ والتنفيذ شعبا ونوابا وتابعين ومعارضين، لتسقط كل الشعارات والمواقف المعلنة والمرتفع صوتها عندما يتطلب الأمر اتخاذ الموقف العملي الذي فرضه التونسيون على أنفسهم، فلو أنهم لم يعلنوا عن إصدار مثل هكذا قانون والدعوة إلى ضرورة شرعنته ومنذ سنوات طويلة، لما طلب أحد منهم مثل هذا الفعل الذي أوقعهم في حرج داخلي وخارجي، وإن كانت هناك أسباب وراء العمل على تشريع هكذا قانون وهو وجود تواصل مباشر وغير مباشر مع العدو الصهيوني، من قبل عديد الشخوص الرسمية والشعبية، ومن عديد فئات الشعب التونسي أفرادا وجماعات طيلة السنوات الماضية.. بل هناك من يخرج عبر الشاشات ويدافع عن هذا التواصل وموقفه منه ودعمه له، وهو ما جعل من يرفضون مثل هذا التواصل أن يعملوا على أن يكون القانون رادعا لكل هؤلاء، ولكن الواقع بين أن الأمر ليس سهلا، وإن حسابات الربح والخسارة كانت أقوى من كل موقف ومبدأ وشعار. ليجمد القانون حتى هذه اللحظة ويتحول إلى محل جدل وصراع بين التونسيين من كل الأطياف والأطراف بين رفض لما حدث وبين داعم ومؤيد وبين هذا وذاك.

وللعلم فإن التواصل التونسي مع الكيان الصهيوني ليس بجديد، وله تاريخ طويل يبدأ ولا ينتهي شعبيا ورسميا.. فالبداية كانت بأرواقه الأمم المتحدة بنيويورك سنة 1952 عندما التقى ممثل تونس “الباهي الأدغم” مع الوفد الإسرائيلي للحصول على دعم إسرائيلي من أجل استقلال تونس، بعد أن ذكر أن “بورقيبة” لا يسعى لإزالة الكيان الصهيوني في تلك الفترة التي كان هذا الشعار مرفوعا من عديد الأنظمة العربية وشعوبها، التي ترفض وجود الكيان الصهيوني، ومنها من لازال يرفع نفس الشعار حتى اليوم رغم كل المتغيرات وفي موقف مبدأي لا ينكسر.

وكان اللقاء الثاني سرا بين سفير “إسرائيل” لدى فرنسا ووزير المالية التونسي في سنة 1956 في مسعى لحصول “إسرائيل” على مساعدة لبناء المستوطنات الزراعية التعاونية بالأراضي المحتلة.

وكان لتونس دور رئيسي في المحادثات السرية بين منظمة التحرير الفلسطينية والصهاينة والتي وصلت إلى المبادئ الخاصة بالحكم الذاتي لفلسطين في سنة 1993م.

ثم كانت زيارة وفد صهيوني لتونس في ذات السنة لإجراء محادثات مع وزارة الخارجية التونسية من أجل إقامة علاقات دبلوماسية مباشرة.

ليصل أوائل السياح الإسرائيليين إلى تونس في سنة 1994.. كما تم فتح قنوات تواصل من خلال السفارة البلجيكية في تونس و”إسرائيل” ليكون اللقاء المباشر بين وزير خارجية تونس الحبيب بن يحي ووزير خارجية العدو إيهود باراك في برشلونة الإسبانية سنة 1995م، من أجل توسيع العلاقات الرسمية بينهما هو أعلى مستوى وصل إليه التواصل في تلك المرحلة، وصولا إلى فتح مكتب لرعاية المصالح “الإسرائيلية” في تونس مقابل فتح مكتب تونسي في فلسطين المحتلة، تم إغلاقهما في سنة 2000 عقب اندلاع الانتفاضة الثانية في الأراضي المحتلة.. ولكن هذا لم يقطع الاتصال كليا رسميا وشعبيا فبقت هناك مبادلات تجارية بين تونس والعدو الصهيوني إضافة إلى علاقات فردية خاصة بين عديد التونسيين الذين كانوا يلتقون بالصهاينة داخل تونس وخارجها، والسفر حتى إلى الأراضي المحتلة لعدة أسباب، من بينهم الفنانين الذي كان بعضهم يفخر ويجاهر بما فعله، وكذلك عديد المواجهات الرياضية بين رياضيين من تونس و”إسرائيل” فيما كان رياضيو بعض الدول الأخرى ينسحبون عندما يجدون منافسهم من العدو الإسرائيلي.. بل هناك تبادل تجاري بينهما بشكل مباشر وغير مباشر حتى اليوم، ولو بعيدا عن الجهات الرسمية، دون أن ننسى دخول سياح الصهاينة إلى تونس خاصة لحضور مهرجان الغريبة الذي يقام سنويا بجزيرة جربة التونسية.

لهذا تجد تونس اليوم نفسها محرجة بمثل هذا الموقف، وهكذا قانون قد يضعها في موقف لا تريده مع مواطنيها الذين لهم تواصل مع الصهاينة، وكذلك في ما قد يفرض عليها من مواجهات رياضية وغيرها، سيجبرها مثل هكذا قانون إلى الانسحاب منها، وهو ما لا يريده الكثيرون، وغيرها من أمور وعلاقات من دول أخرى قد تحاسبها على هكذا موقف وهو ما يضعها في موقف لا مثيل له.

وهنا يكون الاختيار إما تحمل الموقف ونتيجة الاختيار وكل ما قد يصل إليه الأمر، أو الصمت ومسايرة الواقع وعدم رفع الصوت بالشعارات التي تسقط عند أول الامتحانات الفعلية والعملية، خاصة من قبل السلطة والجهات المستفيدة من علاقات الصهاينة، ومن كل الفئات، وهو لا يعني أن الشعب التونسي عامة يرغب في التطبيع أو يرفض هذا القانون، لكن هناك جماعات وفئات وأفراد أكثر مكانة وقدرة لها مصالح لعدم إصدار هكذا قانون، يبدو أنها هي من لها الكلمة حتى هذه اللحظة على الأقل.. رغم أن ما حدث لا يسقط الموقف التونسي وتضامنه مع غزة وفلسطين، ولكن يضعهم في حرج كانوا في غنى عنه لو لم يضعوا هذا القانون بينهم لإثبات مواقفهم.

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى