* كتب/ السنوسي بسيكري،
تملُّك السلطة مدعاة للتورط في انتهاك الحقوق ومصادرة أو تقييد الحريات، وفي اعتقادي أنها بديهية تجري على كل أصحاب السلطة، حتى أولئك الذين في الدول المتقدمة، والاختلاف هو في الاساليب وفي مناطق ممارسة الاستبداد وانتهاك الحقوق، وما يجري في غزة اليوم دليل على ذلك. غير أن للاستئثار بالسلطة والتورط في الانتهاكات رادع يمثله الدستور وتعززه السلطات الأخرى الرسمية والمجتمعية، وهو ما نشاهده في المجتمعات الديمقراطية.
وإسقاطا على الحالة الليبية، فإنه لا يستثنى اليوم أحد من القابلية للوقوع في الاستبداد والتورط في القمع، فالحكام في غرب البلاد أو شرقها يضيقون ذرعا بالانتقادات والاعتراضات عبر وسائل التعبير المختلفة، والفارق بينهم هو الاختلاف في الخلفية والنشأة، غير أن الأهم هو وجود قوى تمنع تحول تملك السلطة إلى استبداد يفرخ العنف ضد المعارضين أو حتى المنتقدين لها في الغرب وانتفاء ذلك في الشرق.
صيانة وتثمين الحقوق والحريات كانت من بين أسباب انتفاضة قطاع واسع من الليبيين في فبراير 2011م، وهي من أهم مكاسب الثورة، كما أنها من أبرز معايير التفضيل بين المناطق المتعددة في البلاد، غربا وشرقا وجنوبا، ولأن نفَس فبراير ما يزال حاضرا في الغرب الليبي فالحقوق والحريات أكثر صونا وتثمينا.
الجدل بين المثقفين أو من يصنفون ضمن شريحتهم قام منذ العام 2014م حول المفاضلة بين الحقوق والحريات والأمن، وانقسم أنصار فبراير -وآخرون وجدوا في الخلاف فرصة للعودة للمشهد- بين منتصر للأولى وآخر مقدم للأمن على كل شيء. والحقيقة أن وضع الحقوق والحريات في تناقض مع الأمن والاستقرار مغالطة ما كان ينبغي أن يقع فيها مثقف أو من هم من أهل العلم والمعرفة، إذ لا أمن بلا حقوق تصان وحريات تثمّن، وقد ثبت لدى معظم من ناصروا المشروع العسكري الأمني الذي هيمن على الشرق أن الأمن يتجه ليصير أمن السلطة وبقاءها، وعلى حساب النَيل من الجميع حتى من ناصروها وكانوا عاملا رئيسيا في بلوغها ما بلغته.
حادثة اعتقال الأستاذ الجامعي بشير عريبي في العاصمة طرابلس كانت اختبارا بل ربما معيارا لقياس مدى تقدير الحقوق والحريات في الغرب الليبي في مقابل المناطق الأخرى، خاصة الشرق، فالرجل مارس بعض حقوق المواطنة وأساسيات الحرية، وهي التعبير عن رأيه وما اعتبره تجاوزات للسلطات الأمنية، بل حتى السياسية في العاصمة تجاه مطالب أعضاء هيئة التدريس في الجامعات. والحديث هنا لا علاقة له بما قام به أعضاء هيئة التدريس عبر نقابتهم من اعتصام أدى لوقف الدراسة لشهرين، وأسلوب عريبي في الاعتراض، فالنقاش في هذه المساحة مخصص لحق التعبير والدفاع عنه في مواجهة السلطة الحاكمة وأجهزتها، فهذا بيت القصيد.
الدكتور عريبي خرج في اليوم ذاته أو الذي يليه، ومن بين أسباب خروجه هو الحراك متعدد الواجهات الذي أدان السلوك الأمني تجاهه، ولأن المناخ العام يحكمه بقدر لا بأس به احترام الحقوق والحريات، ويضبطه التوازن بين المكونات المختلفة في الغرب والتي تجعل من هامش الحريات أرحب، فإن انتهاكات الحقوق وتقييد الحريات ليس هو الأصل، وأن البراح فيها ما يزال مرضيا، ولهذا تقع الاعتقالات لكنها محدودة وتنتهي في الغالب إلى تسوية، ويظل هامش التعبير واسعا والانتقاد والاعتراض حتى على رأس هرم السلطة متاحا.
حوادث عدة ووقائع كثيرة تؤكد أن الحقوق والحريات في مستوى متدن في الشرق الليبي، فتغييب نائبة في مجلس النواب، واحتمال تصفيتها، لاعتراضها على سلوك للسلطة المتحكمة وهي قيادة الجيش، ومقتل ناشطة في وضح النار لانتقادها سلوك متنفذين هناك، وما آل إليه العميد المهدي البرغثي بعد عودته إلى مدينته وبيته، واعتقال العديد من النشطاء المبرزين، آخرهم د. فتحي البعجة ورفقاؤه، لمجرد تحفظهم على الواقع السياسي والحقوقي، ومنع التظاهر والتجمهر إلا لمناشط تدعم السلطة الحاكمة، جميعها يشير إلى أن النهج هناك قائم على تثبيت السلطة وتعزيز النفوذ عبر القمع والترهيب، وأن المكونات الأخرى التي من المفترض أن تحقق التوازن وتمنع الاستئثار بالسلطة والانزلاق إلى تكريسها عبر الكبت والقهر تم تحييدها عبر التهجير أو التغييب أو الانزواء في ركن بعيد حيث لا حراك بل لا صوت.
لا أدعي أن الحالة في الغرب الليبي بالعموم صحية، والإشكال هو خلل السلطة بسبب تعدد القوى، غير أن الخطأ الأكبر أن يكون الحل هو تغلُّب إحدى تلك القوى لتصير إلى الاستئثار بالسلطة والوقوع في الانتهاكات ومصادرة الحريات، والمطلوب هو ترشيد وتقنين السلطة في الغرب والشرق والجنوب، والوسائل هي ترقية الوعي العام بقيادة وإشراف النخبة الرشيدة ومن خلال توازن السلطات الذي ينظمه دستور حاكم تسنده المكونات الرسمية والمجتمعية.