
* كتب/ طارق القزيري
ما حدث في الساعات الأولى بعد الضربة الإسرائيلية الأخيرة ضد إيران لم يكن مجرد خبر عابر في شريط الأخبار، بل كان درسا مكثفا في آلية صناعة الإدراك العالمي حين تقع الصدمات الكبرى.
فجأة، امتلأت الشاشات بتقارير عاجلة تصوّر “الضربة النوعية” كإنجاز عسكري استثنائي، وتحول المشهد -خلال لحظات- إلى عرض احتفالي صاخب يصور انهيار السيادة مثل الدفاعات الإيرانية كما لو كان مجرد استعراض تفوق أحادي الجانب.
وكما يحدث في كل صدمة، تسابقت الآلة الإعلامية -الغربية والإسرائيلية على السواء- لصياغة رواية فورية: إسرائيل تتفوق، إيران تنهار، والميزان الاستراتيجي يعاد رسمه بلحظة واحدة حاسمة.
هذا النمط من الترويج لا يعكس فقط وجهة نظر المنظومة التي تملك القوة النارية، بل يعبر عن نزعة عميقة داخل العقل السياسي الغربي: الميل إلى تفسير الأحداث بمنطق الحسم السريع والضربة القاطعة، في عالم بالغ التعقيد، يستعصي على مثل هذه الاختزالات.
ثم شيئًا فشيئًا، ومع تمدد الساعات والأيام، بدأت هذه الرواية تفقد صلابتها الأولى. تحولت نغمة الحديث من مشهد “القصف الحاسم” إلى حديث عن “تفاعلات الحرب”.
وظهرت تدريجيًا إشارات تحذير في الخطاب الأمريكي نفسه بالتدخل، وكأن واشنطن وجدت نفسها مضطرة للحد من نشوة حليفها الإسرائيلي، وإعادة تذكيره بأن ما جرى ليس نهاية الرواية، بل بداية سلسلة تفاعلات لا يمكن التنبؤ بمآلاتها ببساطة.
ما يكشفه هذا المشهد لا يتعلق بحسابات الربح والخسارة المباشرة، ولا من سينتصر، أو يخسر أكثر، بل بالكيفية التي نتلقى بها نحن ـ في هذه المنطقة ـ سرديات القوة المهيمنة.
فحتى عندما نعتقد أننا نحلل الوقائع بعين محايدة، فإن وعينا ذاته يكون قد تشكّل داخل منطق اللعبة الرمزية نفسها التي صاغت مشهد الإدهاش الأول. نحن نتلقى الأحداث ونسعى لفهمها عبر قوالب تفسير جاهزة، نعيد استهلاكها في كل دورة صراع جديدة.
إن أخطر ما في هذه السرديات ليس مضمونها فحسب، بل آلية إنتاجها المستمرة. فكلما وقع حدث صادم، هرع الإعلام ليعيد تشغيل ماكينة الإدهاش السريع: انتصار خاطف، انهيار مدوّ، تفوق مطلق.
ولاحقًا، حين تتضح تعقيدات الواقع، تبدأ الرواية بالتراجع التدريجي وكأن شيئاً لم يكن. وبين الصدمة الأولى والتراجع اللاحق، يكون وعي المتلقي أو الجموع قد ابتلع الرسالة الجوهرية: هناك طرف يتفوق، وطرف ينهار، حتى وإن لم يحدث هذا فعلاً على الأرض.
هذه ليست مجرد معركة عسكرية إذن، بل معركة على تعريف الواقع ذاته. من ينتج السردية الأولى يملك غالباً السيطرة على الإطار الذهني الذي سيتعامل به العالم مع الحدث لزمن طويل.
ومن هنا، تصبح معركة الوعي معركة مركزية في إدارة أي صراع مع قوة تملك ليس فقط السلاح، بل القدرة على صناعة الإدهاش وترويج السردية الأولى.
في عالم الصدمات الكبرى، الخطر الحقيقي يبدأ بعد مرور الصدمة، حين نكتشف أننا عدنا -بلا وعي- لإنتاج إجاباتنا وتحليلاتنا داخل نفس المسرح الرمزي الذي صممه الخصم منذ اللحظة الأولى.