
* كتب/ محمد جمعة البلعزي،
لو عرف أهل مدينتي أن حياتهم ستكون هكذا.. للفّوا حبل سرّتهم حول رقابهم!
في خمسينات وستينات القرن الماضي.. تحزّمت مدينتي بمستوطنات مهاجرين من مختلف الأعراق والألوان.. ناس فقراء.. أقاموا أكواخاً وأعشاشا خلت من أدنى مقومات الحياة.. الكهرباء والماء والمراحيض.. أميين.. عمال أجر.. غادروا بيئتهم الأصلية ومناطقهم ونجوعهم وبواديهم.. ليستوطنوا مدينة متحضرة.. تربّت على مدى تاريخها على أنماط عيش مرفّه وحياة كريمة وتحضّر منشود.. تبادلت نماذج العيش المتطور مع أقوام عجم.. ساهموا في بنائها وتهذيب سكانها المتخلفين، وجعلوا منها مدينة فاقت عن غيرها..
ولشعور أولئك المهاجرين بتدنّي مستواهم الاجتماعي لم يتوغلوا داخلها إلا قليلا.. عاشوا في أطرافها.. وجدوا حياة شبّه لهم أنها كريمة قرب مواطنين متمدنين.. فلحق بهم ذووهم تطبيقاً لظاهرة التنادي أو الزحف المبرمج.. لكن المنحدرين منهم نسوا بسرعة.. أو تناسوا.. أن المدينة لم تلفظهم يوما.. بل منحتهم الهواء والغنى والعيش الكريم.. وأصبحت لهم موئلاً بديلاً.. لكنهم أنكروا كل ذلك.. وسارعوا بالزحف المسلح والسيطرة على قيود المدينة المتحضرة، وأصبحت مقاليد الحكم في أيديهم.. وهاموا فيها تخريباً وإفساداً.. وبدلاً من اكتساب تمدّن المدينة فرضوا أسلوب البداوة عليها.. فتبدونت ليتلاشى سكانها الأصليون.. بين موت واغتراب..
عاش بدو مدينتي داخلها جسدياً وأذهانهم لا زالت عالقة بمناطقهم.. يحنون إليها في كل مناسبة.. ويلجئون إليها كلما حلت بالمدينة نائبة.. فيرحلون عنها ليعودوا إلى بيئاتهم الأصلية.. ليتذكروا ماضيهم فوق كثبان رمل وصحراء حجر وخيام وبيوت حفر وبناءات طين.. إنه انفصام في الشخصية.. مرض نفساني.. لم يشفو منه.. ربما كان الفقر قديماً عذراً أجبر البدو على مغادرة بيئتهم واللجوء إلى المدينة الكبيرة للاسترزاق والبحث عن لقمة العيش.. لكن أبناءهم أصبحوا اليوم أثرياء.. بعد أن هيمنوا على مصادر الثروة ودخل البلاد.. فنصيحتي لهم دون تمييز.. أن يعودوا إلى أرض آبائهم وأجدادهم.. كي يثبتوا انتماءهم لبيئتهم ليبنوها ويعمّروها ويحيلوها مناطق مزدهرة عامرة.. خاصة وأن كثيراً منها يملك مقومات سياحية فريدة تجلب لهم الأموال.. وليقيموا المصانع والمزارع حيث تسع الأرض.. فمهما عاشوا في المدينة لن يشعروا بأنها تملأ أرواحهم.. بل لا زالوا غرباء عنها حتى وإن اعتادوا العيش بها.. ففي نزوحهم إلى المناطق التي أتى منها ذووهم السابقون خير علاج لمرضهم النفساني.. ولتركوا المدينة تسترد هواءها النقي بعد أن أصبح خانقاً بهم! دعوة من قلب ابن المدينة.