
* كتب/ عمر السويحلي،
رحم الله الدكتور علي عبد السلام التريكي، أحد أبرز الدبلوماسيين الليبيين الذين خدموا بلادهم في مرحلة حرجة، حيث تقلد مناصب رفيعة في عهد النظام السابق.
يروي الدكتور علي حادثة وقعت أثناء عمله سفيرًا لليبيا في فرنسا، تعكس حجم الفساد الذي استشرى حتى في أدق مفاصل الدولة:
فقد ورد إلى السفارة تفويض رسمي لتغطية علاج موظف يعمل بوزارة الخارجية الليبية في تركيا. جاء مع التفويض فواتير طبية بمبالغ ضخمة منسوبة إلى طبيب فرنسي. غير أن الدكتور علي، بدافع من ضميره المهني، تواصل مع الطبيب مباشرة، فاكتشف أن الفاتورة الحقيقية زهيدة جدًا، وأن الطبيب لم ير المريض إلا مرة واحدة!
أوقف الدكتور التريكي صرف المبلغ فورًا، وأحال الواقعة إلى وزارة الخارجية مطالبًا بفتح تحقيق شامل مع الموظف المحتال.
لكن المفاجأة الأكبر كانت عند عودته إلى طرابلس، إذ فوجئ بجحافل من أقارب الموظف يضغطون عليه بالتنازل عن شكواه، بحجةٍ أليمة:
“ما هوش بروحه اللي يسرق… كلهم يسرقوا، وخيرها هذا!”
يعلق الدكتور علي بأسى، أن هذا الموظف، وبعد مغادرته منصب السفير، تمكن لاحقًا من تحصيل كامل المبلغ من السفارة بطرق ملتوية.
لقد رسخت هذه العقلية المريضة في أذهان كثير من موظفي الدولة: أن السرقة ليست فسادًا، بل “فرصة” مشروعة في بيئة ينهشها الجميع. تبدلت القيم، واختلطت المفاهيم:
صار الحلال ما وقع بين أيديهم، والحرام ما لم يستطيعوا الوصول إليه.
وإذا صحّ ما تداولته بعض التقارير عن أن رئيس حكومة الوحدة الوطنية نفسه أنشأ شركة بغرض الاستحواذ على جزء من ثروات النفط الليبي لصالحه الشخصي، فإننا لا نملك إلا أن نُردد مع الملك إدريس السنوسي، رحمه الله:
“قد بلغ السيل الزُّبى.”
من قلة العقاب قلّ الأدب
إن ضعف المحاسبة، وتراخي مؤسسات الرقابة، وغياب القضاء العادل، أنتج حالة عامة من انحلال الأخلاق الإدارية. ومن الطبيعي، كما قال العرب قديمًا:
“من أمن العقوبة أساء الأدب.”
فما الحل؟
الحل يبدأ من رأس الهرم.
إذا كان ولي الأمر -من بيده السلطة وبيت المال- أمينًا عادلًا، سرت الأمانة في جهاز الدولة، وإذا كان لصًا نهابًا، صار الموظفون جميعًا يتسابقون إلى الخيانة.
وقد عبّر ابن خلدون عن هذه الحقيقة الاجتماعية ببراعة حين قال:
“الحاكم سوقٌ من أسواق الناس، ينفق فيه ما يُروج عنده.”
فالحاكم الصالح يروج عنده الخير، والحاكم الفاسد يروج عنده الفساد.
وأين نجد اليوم ذلك الحاكم الذي وصفه عمر بن الخطاب حين قال:
“الرعية مؤدية للإمام ما أدى الإمام إلى الله. فإن رتع الإمام رتعوا.”
وقال أيضًا:
“إنما الناس تبع لأمرائهم، فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.”
إنه النظام القائم على الشريعة، حيث لا كيل بمكيالين، ولا حصانة للسارق أو الزاني أو الفاسد بحجة المنصب أو النفوذ.
ففي شرع الله، تؤخذ حقوق الناس كاملة:
- تقطع يد السارق مهما كان مركزه.
- يرجم الزاني المحصن ويجلد غير المحصن دون محاباة.
- يقتل اللوطي سواء كان فاعلًا أو مفعولًا به، رحمة بالمجتمع وصيانة لأخلاقه.
حتى يتحقق عدل الله على الأرض، يبقى السؤال المؤلم معلقًا:
مَن ذا الذي نأتمنه اليوم على أموالنا وأعراضنا ومستقبل أولادنا؟
لقد غرق أكثر الناس في الفساد (ولا أعمم الجميع)، ولكننا نكاد نرى أن كلما ذهب حاكم فاسد ولي علينا من هو أفسد وأظلم.
صدق الله العظيم حين قال:
﴿وكذلك نولي بعض الظالمين بعضًا بما كانوا يكسبون﴾ [الأنعام: 129].
وصدق نبيه محمد صلى الله عليه وسلم حين قال:
“كما تكونون يُولّى عليكم.” (حديث حسن بشواهده).
لن يصلح حالنا إلا بالعودة الصادقة إلى دين الله، واختيار حكام يخافون الله قبل أن يخافوا الرأي العام، ويحكمون بشرعه قبل أن يحكموا بأهوائهم.
أما الإصلاح بالمجاملات أو بالقوانين الوضعية التي تحمي الفساد، فليس إلا حرثًا في البحر
“مليون حافظ للقرآن”… وأمة تتهاوى
في بلد يدّعي أن فيه أكثر من مليون حافظ للقرآن، يتصاعد السؤال المؤلم: أين أثر هذا الحفظ في واقعنا؟
ففي الوقت الذي يُفترض أن يكون فيه حفظة القرآن مشاعل هدى وإصلاح، نرى الحرام وقد تغلغل في مفاصل الحياة: في المال، في العلاقات، في الوظائف، في القضاء، في الفتاوى، وفي كل زاوية من زوايا الدولة.
نحفظ القرآن ولا نحكمه، نُجيد التجويد ونتقن الغش، نرفع الشعارات وندوس على القيم.
انتشر الظلم، وتفاقم العقوق، وغاب الضمير. المواطن البسيط يُهان إن لم يكن ذا واسطة، والغني يُكرّم ولو كان فاسدًا.
الفتوى أصبحت مزاجًا، والكرامة تُباع، والحق يُغتال، والباطل يُصفق له.
فأين هؤلاء المليون؟
أين هم في ميادين التعليم، ومرافق الدولة، ومؤسسات العدالة، ودوائر القرار؟
هل الحفظ غاية أم وسيلة للهداية؟
هل تسابق المسابقات أضحى بديلًا عن صناعة القدوات؟
نملك الأصوات ولا نُقيم حدود الآيات. نحفظ المخارج ونتجاهل المقاصد.
في ظل هذا الواقع، لا غرابة أن يتصدر المشهد الجهل، ويُستبعد أهل الحق، ويُكرّم الفاسدون، وتُفتح المشاريع بأسماء “مشاهير التفاهة”، لا بأهل القرآن والخلق.
إنه الانفصام المريع بين النص والتطبيق، بين الشرع والواقع.
وما لم ينهض حملة القرآن بالقرآن، فسيبقى السؤال يجلدنا:
أي قرآن نحفظ؟ وأي أمة نُعد؟
﴿وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰٓ أَمۡرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ)